عمار يا مصر…
عندما تتحدث عن حال التعليم عليك أن تدرك أنك ستصطدم حتما بجبل الثلج الذي لا يبدو منه غير قمته فقط ، أو أنك تقف في طريق كرة الثلج أو اللهب – سمها كما شئت – المتدحرجة التي تتضخم وهي في طريقها إلي الهاوية !
قضية التعليم في مصر هي أخطر القضايا وأهمها علي الإطلاق لأنها مفتاح البناء والتقدم والتنمية، وهي ترياق أمراضنا المستعصية، والقاطرة التي تسحب خلفها المجتمع إما إلي الصعود ، وإما إلي القاع ..
من بداية زمن الانفتاح – أو زمن الانحطاط والتراجع – والتعليم صار لعبة يلعب بها وزراء التعليم في بلدنا المحروسة.. كل حسب هواه وافتكاساته العبقرية ، وتحول تلاميذنا وطلابنا في مراحل التعليم الأساسي إلي حقل تجارب ، ودخل إلي التعليم العالي طلبة مصابون بفيروسات لا علاج منها ، وخرجوا إلي سوق العمل بلا تعليم أو مجرد قدرات بسيطة تؤهلهم إلي وظيفة تكون محطتهم الأخيرة في الحياة العملية ، فصارت شهادة التخرج في أي كلية مجرد ورقة يتم دسها في ملف تقول أن هذا الشخص حصل علي شهادة جامعية !
كان – وما زال – كل وزير تعليم يتولي مسئولية هذه الوزارة يريد أن يضع بصمته علي التعليم فيخترع أو يبتكر نظاما خاصا به يدعو إلي تطبيقه تحت شعار تطوير التعليم ، ثم تتركه الوزارة يرحل عنها ليأتي غيره يلعب ذات اللعبة وبنفس الخطوات ، وهكذا علي مدار العقود الأربعة السابقة وربما أكثر ، وكانت النتيجة تشويش وتراجع وتخلف أصاب أبناءنا .. فخرج إلي الحياة أنصاف وأرباع متعلمين هم الآن – للأسف – في مراكز قيادية في هذا الوطن منهم أطباء تسببوا في موت مرضاهم بالجهل أو الإهمال أو ضعف المستوي ، ومنهم مهندسين صمموا وشيدوا مساكن تصدعت وسقطت فوق رؤوس ساكنيها ، وضباط شرطة حولوا الوظيفة السامية إلي عمل مكروه وتجاوزا فيه الحدود ، وصحفيين حولوا المهنة إلي أداة ابتزاز وتربح ، وإعلاميين لم يدركوا أن الكلمة نور وبعض الكلمات قبور فباعوا مع البائعين بضاعة منتهية الصلاحية مقابل أموال فاسدة ، ومنهم سياسيين ونخبة حولوا الوطن إلي ( تورتة ) كبيرة وتسابقوا من يأخذ القطعة الأكبر .. وغيرهم فالنماذج لا تحصي !
منذ انصرفت الدولة عن الاهتمام بالتعليم – عمدا – انتشرت الدروس الخصوصية كالنار في الهشيم.. وخطوة خطوة صارت عملا بديهيا وأساسيا في العملية التعليمية – وإن خرجت ملايين التصريحات الجوفاء التي تعلن مواجهة هذه الظاهرة – حتى وصلت إلي حد التقنين بدون قرار وزاري أو قانون .. إلي أن قررت الوزارة بدعم من مجلس الوزراء فتح مراكز دروس خصوصية مقننه.. يعني تعليم موازي في الشارع ، ودخلت الوزارة في معارك مع المعلمين المتخصصين في الدروس الخصوصية ، ومع الطلبة وأولياء الأمور وفشلت الوزارة في تحقيق ما أرادت !
وبين الترهيب والترغيب ، وبين الرؤية وغياب الرؤية ، وبين التصريحات الجوفاء والواقع علي الأرض .. يرقد التعليم بأجهزة التنفس الصناعي في الإنعاش يصارع من أجل البقاء وهو لا يدري أن شهادة وفاته تم تحريرها من عقود بفعل فاعل وبقصد وسوء نية !
المسئولون يعلمون هذه الحقائق، ويعلم أصحاب القرار حجم جبل الثلج الذي يرقد في الأعماق والذي يضرب كل سفن الإصلاح ويحطمها.. ويعلمون علم اليقين أن حديثهم عن تطوير التعليم هو حديث فض مجالس واستهلاك وقت حتى تنتهي فترة عمل الوزير أو المسئول علي خير ، ويمضي إلي حال سبيله حاملا لقب الوزير السابق لتفتح له أبواب أخري ، ويأتي الوزير الجديد ليبدأ في اختراع العجلة وهو يدرك جيدا أن العجلة تم اختراعها وانتهي الأمر .
الإنجاز الوحيد الذي يحققه وزراء التعليم وخبراء التعليم هو تسليم التصريحات والأقوال المأثورة التي يتداولونها عن التطوير إلي من يأتون بعدهم لأنها صارت من التراث الذي يجب الحفاظ عليه ، وأن تغييره أو العبث فيه دونه الموت !.. وللحديث بقية حول برنامج الحكومة لإصلاح التعليم في مصر .