من ينسى منا فيلم البرىء للمخرج عاطف الطيب فأنه يحمل أكثر من فكرة واحدة كما أنه يتحدث الفيلم عن الحرية بمعناها الشامل وذلك عن طريق إظهار لمحات من الفساد السياسي في مصر بعد سياسة الإنفتاح وبالتحديد خلال فترة ما سميت بإنتفاضة 17 و18 يناير 1977كما أن الفيلم يتحدث عن فكرة تحول الإنسان إلى آلة مبرمجة من أجل خدمة سلطة معينة ويختصر فكرة الفيلم بالعبارة قمع الحرية بجهل الأبرياء.
فالشخصية الرئيسية في الفيلم هو أحمد سبع الليل (أحمد زكي) الشاب الريفي الفقير الذي يعيش مع أمه وأخوه عبد الصبور المتخلف عقلياً لا يعرف أحمد سبع الليل من الدنيا إلا قريته حيث لم تمكنه ظروفه الإقتصادية من التعليم. مفهومه للوطن مفهوم بسيط فالبلد بالنسبة له هي الحقل الذي يزرعه بنفسه والترعة التي يقذف بجسده فيها ليقاوم حرارة الصيف والأعداء هم من يمكن أن يراهم رؤيا العين وجهاً لوجه حيث يتوقف إستيعابه الذهني عند ذلك الحد والترفيه الوحيد الذي يمارسه بعد عناء يوم شاق هو محل البقالة الوحيد الذي يتجمع عنده بعض شبان القرية لقضاء الوقت بالحديث أو بالتسلي بالسخرية من السذج أمثال أحمد سبع الليل. الشاب الجامعي الوحيد في القرية حسين وهدان (ممدوح عبد العليم) متعاطف مع أحمد سبع الليل ويمنع الشباب الآخرين من التمادي في السخرية من سذاجته ويقوم بتشجيعه على تجنيد نفسه في القوات المسلحة للدفاع عن البلد ضد الأعداء.
وعندما يتم إستدعاء أحمد سبع الليل للتجنيد الإجباري ولأنه لا يعرف ما معنى التجنيد أو إلى أين يذهب يقوم حسين وهدان بتوضيح معنى التجنيد لأحمد سبع الليل فيقول إن الجيش يحمي البلد من أعداء الوطن وهنا يرد أحمد وقد فهم أن المقصود قريته بس بلدنا ما لهاش أعداء وهذه الجملة هي مفتاح أحداث الفيلم وإفتتاحية الفيلم نصاً وإخراجاًوتصويراً ويتضح فيما بعد أن المطلوبين لأداء الخدمة العسكرية يخضعون لبرنامج مكثف من الفحص الطبي بالإضافة إلى تصنيفهم تصنيفاً ثقافياً وعلمياً فيصبح أحمد سبع الليل الأمي الذي يجهل القراءة والكتابة في ذيل القائمة وينتهي الأمر به إلى الإنخراط ضمن قوات حراسة أحد المعتقلات الخاصة بالمسجونين السياسيين في منطقة صحراوية معزولة وهناك يتم تدريبه على إطاعة الأوامر بأسلوب الطاعة العمياء التي تتطلب تنفيذ الأوامر بدون أية مناقشة حتى ولو كانت منافية للمنطق.
وفي المعتقل نرى العقيد توفيق شركس (محمود عبد العزيز) وهو نمط الضباط الذي يعيش حياة مزدوجة بين حياته الخاصة حيث يبدو في غاية اللطف والرقة وبين حياته العملية حيث يمارس أبشع وسائل التعذيب بعنف ووحشية فنرى الازدواجية في شخصية العقيد عندما يشارك طفلته في إختيار هدية عيد الميلاد فإنه يرفض أن يبتاع لها لعبة على شكل عسكر وحرامية وإنما يختار لها آلة موسيقية رقيقة هي الجيتار بل إنه لا يتعامل بغلظة مع شرطي المرور الذي يعنفه لوقوفه بسيارته في الممنوع. في مقابل ذلك يتحول توفيق شركس إلى وحش بشري في معسكر الإعتقال لا يخضع لأي وازع إلا إرضاء الروؤساء الذين يكلفونه بواجبات منصبه فيبالغ في التنكيل بنزلاء المعتقل. يرى أحمد سبع الليل أن المعتقلين يجبرون على تناول الخبز من الأرض وأيديهم خلف ظهورهم فيسأل لماذا؟ فيقول له الشاويش هؤلاء أعداء الوطن.
من بين المعتقلين نرى الكاتب رشاد عويس (صلاح قابيل) وأستاذ الجيولوجيا (جميل راتب). ولسذاجة أحمد وبساطته فأنه يعترض على أن يقدم الجيش الطعام لأعداء الوطن ويقوم بحراستهم بكل يقظة والعمل على إجهاض أية محاولة من أحدهم للخروج عن نظام المعتقل ولا يتأثر على الإطلاق بسوء المعاملة وقسوتها التي يبديها قائد المعسكر العقيد توفيق شركس وضباطه للمسجونين إلى حد الإهانات الجارحة والتعذيب البدني المبرح بل إن أحمد سبع الليل يرى أنه من المفروض قتل هؤلاء الأعداء لكى يعود كل عسكري لغيطه وداره. تمر أحداث الفيلم سريعاً بعد ذلك وتعكس صورة لواقع مرير من تزييف الحقائق حينما يتبدل حال السجن فور ورود معلومات بوجود لجنة تفتيش لتقييم السجن فيعامل المساجين معاملة طيبة وتفتح لهم مكتبة وملاعب كرة القدم وما إن تنتهي اللجنة من عملها وتغادر المعتقل حتى تعود الأمور لحالها السيء في البداية.ويستعمل المخرج الناي كرمز للعائق الوحيد من تحويل الإنسان إلى آلة.. فأحمد سبع الليل يعشق الناي وعندما يعزف أحمد على الناي في موقع حراسته يأمره الشاويش بإلقاء الناي ونرى الناي وهو يسقط من برج الحراسة إلى الأرض وتنتهي الحركة الأولى من الفيلم وتبدأ الحركة الثانية بالغناء الجماعي للمعتقلين من تأليف الشاعر عبد الرحمن الأبنودي دون موسيقى ولا آلات أغني بدموعي لضحكة الأوطان. يبدأ في الجزء الثاني من الحبكة محاولة الكاتب رشاد عويس (صلاح قابيل) الهرب ولأن الحارس الساذج أحمد يؤمن فعلاً بأن المعتقلين أعداء الوطن يقوم بمطاردته حتى أخر نفس لتنتهي المطاردة بمعركة بين الجندي الشاب والكاتب المعتقل يزهق فيها الفتى روح الرجل خنقاً وسط هتاف المعتقلين إنت مش فاهم حاجة وهو يعتقد أنه يطهر الوطن من مثل هذا العدو وتكون مكافأته إجازة يذهب فيها إلى قريته وترقيته إلى رتبة العريف تقديراً لشجاعته وبطولته.تأتي قمة الإثارة في الفيلم حينما يأتي مجموعة من طلاب الجامعة للتأديب في المعتقل لتعبيرهم عن رأيهم ويستعد أحمد بالعصا في يده لتأديب أعداء الوطن ولكن المفاجأة أن أحد الطلاب هو ابن قريته حسين وهدان (ممدوح عبد العليم) الذي يحبه أحمد حباً كبيراً وتعلم على يديه العديد من أمور الحياة وواجبه تجاه الجندية وهنا يعصي أحمد الأوامر ويمتنع عن ضرب ابن قريته بل ويدافع عنه ويصرخ وهو يحميه بجسده ويتلقى السياط عنه ده حسين أفندي ابن الحاج وهدان أنا عارفه ده لا يمكن يكون من أعداء الوطن وهنا تبدأ الحركة الأخيرة من هذا العمل السينمائي وفيها يعاني أحمد لحظة التنوير عندما يدرك أنه لا يحارب أعداء الوطن ويسجن مع حسين ويموت حسين بين ذراعي صديقه متأثرًا بلدغة ثعبان ويعود أحمد إلى عمله وعيناه تقولان إنه قرر أمرًا ولكن أحدًا لا يستطيع التنبؤ به. ومرة ثانية يغني المعتقلون أغنية حزينة عن تبديل الحقيقة وقلب المعاني. ويعزف أحمد على الناي القديم الذي صنعه بيديه ومن موقعه في برج الحراسة الناي في يد والرشاش في اليد الأخرى يرى السيارات قادمة تحمل المزيد من المعتقلين فيرفع الرشاش ويصرخ صرخة مدوية ينتهي معها الفيلم كما عرض على الجمهور ولكن الفيلم في نسخته الأصلية يتضمن خاتمة يطلق فيها أحمد الرصاص على الضباط والجنود ويلقى مصرعه بدوره على يد أحد الجنود بينما المعتقلون يدقون أبواب سيارات النقل الكبيرة من الداخل ويطالبون بالحرية.
فإن الفيلم يعبر عن مفهوم الحرية في أكثر من إتجاه مثل حرية التعبير عن الأفكار السياسية ممثلة في الكاتب رشاد عويس وحرية المواطن الخاصة ممثلة في حقه في محاكمة عادلة وهي تظهر في شخصية الموظف الذي قبض عليه أثناء معاكسته للنسوة فيتم إعتقاله كمتهم سياسي وحرية الإنسان في حياته الشخصية ممثلة في عالم الجيولوجيا الذي يتم إعتقاله وتعذيبه للضغط عليه ليغير من شكل تركيب حياته الأسرية المستقرة بتطليق زوجته وحرية الجموع في التعبير عن القضايا العامة ممثلة في الطلبة ومن بينهم حسين وهدان ومفهوم حقوق الإنسان خاصة حقوق السجناء وظاهرة الإختفاء القسري والتعذيب والإعتراف تحت ظروف الإكراه وتنفيذ فعل معين تحت وطأة التعذيب وفكرة التعارض بين مفهوم الجندية ومفهوم مصلحة الوطن.
ومفهوم الطاعة العسكرية المطلقة في الحياة النظامية والعسكرية.
والجلاد كصنيعة للسلطة فقد يتحول إلى النقيض فيثور على صانعه بل يصل الأمر إلى قيامه بالإجهاز عليه تماماً ومن هنا نقول أن عبقرية الفن أنه يستطيع أن يسبق الزمن ولا يتقيد بالزمن بحيث أن القيم الفنية تستطيع أن تجد لها إسقاط فى أى زمان وفى أى مكان والدليل على ذلك أنه لا تقيد بلغه أو لهجه ويستطيع أن يسافر فى أقطار الدنيا ويفهمه معظم من يراه.
وفى النهاية أتسأل عزيزى القارىء؟؟؟!!!. هل نعيش اليوم فى زمن البرىء أم لا ؟؟؟