من عجائب الأقدار أن يشاء الله ان يرحل إثنين من قامات السياسة والصحافة العربية والعالمية في وقت متزامن القامة الاولى الدكتور بطرس غالي رحل عن عمر 94 عاما وهو أول ديبلوماسي عربي يتولى منصب الامين العام للامم المتحدة ويوصف بانه احد مهندسي صنع عملية السلام في الشرق الاوسط والقامة الثانيه الاستاذ محمد حسانين هيكل رحل عن عمر 93 عاما وهو احد اهم الصحفيين المصريين والعرب في النصف الثاني من القرن العشرين بل يمكن القول ان الاستاذ هيكل في حد ذاته مدرسة في الصحافة وقد تخرجت منها اجيال متتالية من الصحفيين العاملين في مهنة البحث عن المتاعب خاصة عندما تولى رئاسة تحرير مؤسسة الاهرام ولاشك ان كلا الشخصيتين غالي او هيكل ثار حولهما جدل كبير ربما لدورهما التاريخي في الحقبة التي تواجدا فيها وان كنت اعتقد انها كانت حقبة زمنية واحده فكان الاستاذ هيكل الشخصية الاقرب للرئيس جمال عبد الناصر وكان بطرس غالي الشخصية الأقرب من الرئيس انور السادات .
وان كان هيكل ايضا معاصرا بل مشاركا لصنع القرار في عهد السادات حتى عام 1973 وربما الاختلاف معه جاء بعد ذلك عندما توجه الرئيس السادات الى طريق مغاير لنهج وعقيدة هيكل السياسية عندما قرر الصلح مع اسرائيل في إطار رؤيته لاستثمار انتصار حرب اكتوبر وزادت القطيعة بينهما مع لجوء السادات لسياسة الباب المفتوح المعروفة بالإنفتاح الإقتصادي وهنا بدأ د. بطرس غالي استاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة واحد الخبراء المتميزين والعالمين ببواطن الامور في الشئون الافريقية بدأ في الدخول الى معترك السياسة وقربه اليه الرئيس السادات لأنه صاحب مدرسة في الديبلوماسية الهادئة وتخرج على يدية الكثير من اصحاب القلم وخبراء وكتاب في التحليل السياسي درس لهم في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة بالاضافة الى اجيال من الديبلوماسيين .
واسعدني الحظ أن اكون أحد تلامذة بطرس غالي في السبيعنات من القرن الماضي وتعلمت منه استخدام المنهج العلمي في التحليل السياسي والفصل بين الموقف الايديولوجي والبحث العلمي والحقيقة ان د. غالي كان استاذا في الديبلوماسية الهادئة وان هيكل كان استاذا في الصحافة الهادئة وهذا هو القاسم المشترك بين رجلين مختلفين في الرؤية والتوجه فقد كان هيكل قوميا متمسكا بثوابت التجربة الناصرية وعبر عن ذلك بشكل هادئ في كتاباته وتحليلاته من منطلق عروبي حتى قرر التوقف عن الكتابة اما د. غالي بحكم اقترابي منه كااستاذ لي بالجامعة كان براجماتيا يقيم الامور حسب علاقة المصالح والقدرة على خلق مساحات التقارب بين الاطراف المتنازعة بدون ضغط ايديولوجي وبشكل ايضا يتسم بالهدوء في التحليل او عند اتخاذ القرار بحكم انه في الاصل باحث اكاديمي .
وتمسك بطرس غالي بهذا المبدأ حتى آخر يوم في عمره واتذكر انه في أخر حديث صحفي له في مع مجلة جون افريك ” قال عن الرئيس عبد الفتاح السيسي إنه رجل يجيد الاستماع ،وله مقدرة على صياغة أسئله في منتهى الذكاء ” ، وقال دكتور بطرس غالي عنه أيضا ” إنه أنقذ مصر من الإخوان وتردد كثيرا في تولي السلطة، لكنه قرر أن يفعل ذلك لأنه لا يوجد حل آخر، وأكد أن مصر تحتاج خمسة أعوام للنهوض من كبوتها بعد عام حكم الإخوان مضيفا أنه كان في انتظار ما سماه (الفرعون) ، مثل الملك مينا وآخرين، وأنه يعني بكلمة ( فرعون ) ، الزعيم صاحب التأييد الكبير مثل السيسي
– على حد قوله – وعن أزمة سد النهضة مع اثيوبيا أكد “غالي” أن القاهرة يجب أن تتعامل مع أزمة سد النهضة بمنطق المصالح، وماذا يمكن أن تعطي مصر لأديس أبابا بدلا من بناء السد !! ”
وفي تصوري أن هذه العوامل ساهمت من قبل في ترشيح بطرس غالي امينا عاما للامم المتحدة في الفترة من 1992 حتى عام 1996 وتميزت فترته بالقدرة على امتصاص الاحتقان في كثير من مناطق العالم الساخنة ولهذا جاء اختلافه مع السياسة الامريكية الامر الذي جعل واشنطن لا ترغب في استمراره على راس المنظمة الدولية .
اما الاستاذ هيكل كما اسلفنا جعل من جريدة الاهرام مدرسة صحفية منذ ان اصبح رئيس تحريرها في عام 1957 حتى خرج منها عام 1974 بناء على رغبة الرئيس السادات الذي عينه مستشارا له لكن هيكل اعتذر عن المنصب وقال عنه ” انتوني ناتنج ” وزير الدولة البريطاني للشؤون الخارجية وصاحب كتاب حرب السويس في عام 1978 ” ان هيكل كان دائما قرب قمة السلطة في مصر ما جعل الكل يهتمون بما يعرفه وعندما ابتعد تحول اهتمام الكل الى ما يفكر فيه ” وفي اعتقادي ان هذه حقيقة لانه يملك كما هائلا من الوثائق حيث لم يكن يتحدث دون الاستناد الى وثيقة محدده وربما هذا سر المصداقية التي كان يتمتع بها هيكل خاصة في فترة العهد الناصري وحتى حرب اكتوبر 1973 وقد اعتزل محمد حسانين هيكل الكتابة المنتظمة والعمل الصحفي في الثالث والعشرين من سبتمبر عام 2003 بعد ان أتم عامه الثمانين .
وعموما سواء اتفقنا او اختلفنا كان د. بطرس غالي او محمد حسانين هيكل اثنين من الشخصيات المثيرة للجدل في مجال الفكر الديبلوماسي والصحفي التي أثرت في الفكر السياسي العربي في القرن العشرين !!