عندما كنت فى الاعدادية — وكنت قد اعتدت على صفارات الانذار ودويها المزعج وما ترسله من مشاعر الخوف والرهبة — من مجهول ربما ساقك فى طريقة الى عربة الموت — كما اصبح دوى المدافع الذى يخلع قلوبنا الصغيرة من مرابضها شيئا مالوفا — وان ننتقل فى الليل من منزل الى منزل لنحتمى ونتوارى — كان الليل يمر بطيئا مخيفا — كشبح يرقبك من بعيد — وينتظر اللحظة المناسبة كى ينقض عليك ليخلعك من مأمنك — كان كل شئ متاحا ومباحا — وكان الخطر يغلف كل مشاعرنا بغلاف من الخوف والهلع — وفى ذات يوم — وكنت اجلس فى محل والد صديق لى فى الحميدى — سمعت دوى المدافع — ولكن هذة المرة — كان مختلفا — لم يكن مكتوما — كان قريبا ومصحوبا بصوت تناثر الشظايا — كان خوفى هذة المرة مختلفا — فقد صاحبت أصوات الانفجارات حالة من الهرج والمرج — استفقت على صوت يصيح أن الصهاينة يضربون سوق السمك وسوق الخضار فى شارع النيل والمقدس وعند القنال الداخلى — تملكتنى مشاعر الخوف والرعب فقد كانت العائلة كلها هناك — فى ورشة خالى الواقعة فى حيز جامع علوان — وجدتنى أنطلق بكل ما أتوتيت من قوة — مجتازا الحواجز البشرية التى حاولت منع الناس من التوجه الى منطقة القصف — وقبل أن أصل الى منطقة السوق — توقف القصف — وجدتنى وسط حالة من الهرج والمرج — كانت هناك قطعا بشرية متناثرة وكانت الدماء تسيل منها كالشلال — كانت الأجساد المبتورة تنتفض — وتسمع الأنين والصراخ يمزق نياط القلب — كان الدم المنساب من هذة الأجزاء المبتورة برغم دفئة — فقد كان يسحب حرارة الحياة من هذة الجساد ويسلمها الى برودة الموت المتسلل فى صمت وعناد — جاءت سيارات النقل العتيقة من جراج البلدية القريب — وكان علينا ان نتعاون فى رفع هذى الأجساد الممزقة — بأيادينا العارية — لنضعها داخل صناديق السيارات — كانت أيادى وأقدام ورؤوس منفصلة — ولكنها كانت تنتفض — كانت الدماء الحارة مازالت تنزف من جراحها الحارة — وكان الأنين والصراخ يستنقذنا — وبعد أن فرغنا من مهمتنا الأليمة — اكتشفت أن مشاعرى قد توقفت عند هذة اللحظة — كنت مأخوذا ومذهولا — فقد تعطلت عندى مراكز الاحساس — الا أنفى — فقد عبقت المكان رائحة غريبة — لم اكن أعرف رائحة الدم قبلا — كان لقائى الأول مع الموت — كان قتلا جماعيا — كانت رائحته الغريبة تغطى على ما عداها — احساس لا يوصف — ولكنه ترك أثره على نفسى — فقد صرت برغم سنى الصغيرة — رجلا صلبا — انتزعت منه مراكز الخوف — ومشاعر الضعف — وغرزت مكانها روحا اخرى — أكثر تشبعا بكراهية هذا العدو الخسيس الجبان — روحا لا تعرف اليأس ولا الخوف ولا تعترف بالهزيمة ——