من الضرورة أن تدخل الدولة فى تكوين الادخار من خلال ما يعرف “بالادخار الإجبارى” كأى دولة آخذة فى النمو، وذلك لضمان استدامة التنمية الاقتصادية المطلوبة ورفع معدلات الاستثمار.
بقى علينا أن ننبه الى بعض التدابير والإجراءات المالية اللازمة لتحقيق هذا الغرض. وأهمها يأتى نتيجة عدم التساوى فى توزيع الدخول فى صالح الأغنياء على حساب الفقراء، وهذا يؤدى إلى أن يكون الميل المتوسط للادخار منخفضاً وأن يكون الميل المتوسط للاستهلاك مرتفعاً، أى يؤدى إلى تخفيض الحجم الكلى للادخار، وإلى رفع الحجم الكلى للاستهلاك فى البلاد إلى أقصى حد ممكن. ثم يأتى تبرير فرض الضرائب على الاستهلاك، لا على الادخار والذى له آثاره الضاغطة على الفقراء، لا على الأغنياء، لتشجيع تكوين الادخار الإجبارى لديهم اذا كنا نريد الاعتماد على هذا النوع من الادخار فى التنمية الاقتصادية (من الداخل وليس الخارج بالاقتراض).
وقد كان هذا المنطق متفقاً ولسنوات طويلة قبل ثورتى 2011 و2013 مع دور الدولة فى هذا المضمار، وذلك لتجنب بعض المدارس الاقتصادية – فرض الضرائب على الادخار – ومنها مصر، لأن حصيلتها كانت لتخصص للاستهلاك العام مما يضر بمصادر رأس المال (المحلى والأجنبي). إلا أن بعض الدول الأخرى الاكثر حداثة ترى أن لا مجال هناك للتخوف من فرض ضرائب على الادخار لأن حصيلتها يمكن تبعاً لهذا الدور، أن توجه للاستثمار العام والخاص أيضاً، وعلى ذلك فإن تقييد الاستهلاك وتكوين الادخار لا يقتضى، على خلاف منطق المنهج المصرى، فرض الضرائب على الطبقات الفقيرة دون الغنية، والذى لا أومن به من واقع إيمانى بالعدالة الاجتماعية، ولعدم ظلم الفقراء على حساب الأغنياء من أجل تمويل مشروعات التنمية. لأن هذه السياسة والتى تهدف إلى تقييد الاستهلاك، تؤدى إلى الاجحاف بالطبقات الفقيرة. مما لا يخفى أثره السيئ من الناحيتين الاجتماعية والإنسانية وهو ما لا نرضاه للشعب المصرى، والذى تتسع فيه شريحة الفقراء ومحدودى الدخل. بالإضافة إلى ذلك فإن تكوين الادخار لا يعنى أنه بالضرورة فى مصر، على الأخص، أنه سيحول حتماً إلى استثمار لأن جزءاً منه يكتنز. ورغم انتشار الفقر فى مصر وانخفاض مستوى الدخول، إلا أن الأمل ليس منعدماً فى تكوين الادخار عندنا.
فالبلاد الآخذة فى النمو والأسواق الناشئة مثل مصر، يمكن أن تزيد من ادخارها مع اختلاف مستويات الادخار من طبقة الى اخرى اذا ما قورنا بالدول المتقدمة. حيث يمكن الاعتماد ونحن بصدد تكوين الادخار على حقيقتين: الأولى، أن الاستهلاك الذى يتعدى حداً معيناً ليس من الصعب ضغطه من خلال الضرائب، وإن كان هذا الضغط عسيراً وإن سبب آلاماً للمواطنين. والثانية، أن أغلب الدول الآخذة فى النمو كمصر تتصف بعدم المساواة الصارخة فى توزيع الدخول بين الطبقات المختلفة (أى اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء)، مما يؤدى إلى أن الاعتماد على وسائل التمويل الداخلية وحدها، أمر عسير، وضرورة تخفيض الاستهلاك الى الحد الأدنى اللازم لمعيشة الطبقات العريضة من الشعب، حتى لا يضر بالطبقات الفقيرة ومحدودة الدخل، وبالتالى إنتاجية العمل، وهو أمر ليس بالمستحيل. ويزيد من ضرورة الاعتماد على الادخار القومى فى الوقت الحالى، وتدنى معدل الاستثمار الأجنبى وصعوبة الحصول على رءوس الأموال الأجنبية بصورة مستدامة وتقبلها سيادة الدولة المصرية.
وعليه ننتهى إلى انه إذا أرادت مصر أن تمول التنمية الاقتصادية فى المرحلة القادمة فإن عليها، وخاصة إذا تعذر الوصول إلى رءوس الأموال الأجنبية اللازمة لذلك (وهذا هو دور الحكومة فى المقام الاول). أن تقبل القيام بادخار قومى، أى أن تقبل الامتناع عن استهلاك جزء من الدخل ليخصص لتمويل التنمية الاقتصادية، دون المساس بحقوق الطبقات محدودة الدخل والفقراء بأى شكل من الاشكال حتى نضمن الحد الادنى اللازم لإنسانية المواطن المصرى، وذلك لعدم وجود مسلك آخر على الأقل فى السنوات الثلاث القادمة.