كنا قد أشرنا فى مقال سابق إلى أننا ونحن فى سبيل إقامة البناء الجديد لتفكير الإنسان المصرى يجب أن نهدم كثير من الآراء القديمة وبدأنا “بالعلة الغائية”، واليوم نكمل جزءا آخر من تلك الأفكار وهو مذهب “التفكير الثنائى”، والذى ما زال أصلاً من أصول المذاهب الفكرية منذ كان التفكير وهو للأسف محور أساس فى التنظيم والتبويب والتقسيم للعديد من نواحى المعرفة حتى الآن. فكان فى القدم يقسَم الطبيعيون الأشياء مثلا إلى حار وبارد ورطب ويابس، ويتحدث الفلاسفة مثلا عن الخطأ والصواب، ورجال الدين مثلا عن الحديث نفسه بين الخير والشر، ولا يكاد يخلو مذهب من تلك المذاهب من أثر هذا التفكير الثنائى. والعقل البشرى يطمئن دائما إلى مثل هذه التقسيمات فى كل شىء. وأكثر مذاهب التقسيم تقوم على هذه المقابلة بين صفتين متقابلتين مثل الشىء إما متحرك أو ساكن. وهذا تفكير طبيعى ومنطقى وليس فى أخطاء التفكير خطأ أشد ضرارا من تبويب الأشياء تبويباً قائماً على أمور عارضة لا أساس لها من طبيعة الأشياء، فهو يؤدى إلى التقريب بين الأمور بعيدة كل البعد، ويباعد ما بين أمور قريبة جداً. إلا أن التفكير الصواب لن يستقيم حتى نخلص من اعتبار الإنسان مقياساً تقاس به الأمور وحتى نقلع عن تنظيم الأشياء تنظيماً يقوم على علاقتها بالإنسان ذاته. ومن هذا العرض السابق يتبين لنا أنه عندما تعرف حقيقة الأشياء وقوانينها، تزول بذلك أكثر مظاهر التفكير الثنائى. وقد اتضح ذلك فى العلوم، ولكن الأمر فى الفلسفة والدين أكثر تعقيدا وإن تكن هناك دلائل على أن التفكير الثنائى فيهما لن يلبث أن يقضى عليه هو الأخر متى عرفت طبيعة الخطأ والصواب وطبيعة الخير والشر. فالفلاسفة قديماً ظنوا أن الأمر الواحد لا يكون خطأ وصواباً فى وقت واحد. ثم تبين لهم أن حقيقة بعينها ثابتة البرهان فى مجال ما قد لا تكون صواباً فى مجال أخر. وخير دليل على ذلك “الجاذبية”، فهى صواب من غير شك فى الأمور التى تخضع لها عادة، وحسابها مطرد، ولكنها فى مجال أخر لا تعد حقيقة (على سطح القمر مثلاً). وعلى ذلك لا يكون فى بعض الأحيان الخطأ والصواب أمرين متناقضين! أما الخير والشر فلا تزال النفس البشرية ترى فيهما أمرين متناقضين، إلا أن القياس قد أثبت بالدليل القاطع أنهما أمران يشبهان الحرارة والبرودة. فهما متناقضات ما دام البحث يتعلق بالإنسان ولكنهما من حيث أنهما حقيقة كونية قد لا يكونان إلا درجات لشىء واحد سنعرفه عندما يتم علمنا بالنفس وقد نبلغ من ذلك حد قياس الخير والشر على أنهما درجات مختلفة لتأثير واحد على النفس البشرية. وعلى أى حال يمكن القول أن التفكير الثنائى ظاهرة طبيعية. وأنه يقضى عليه يوم تفهم حقيقة الأشياء، وحين يوجد من الأجهزة ما تقاس به صفات الأشياء مستقلة عن الأجهزة الطبيعية الكائنة فى حواسنا الخمس، وهنا تصبح حقاً مستقلاً عن الإنسان. وحتى ننتهى إلى التفكير الحديث يجب أن لا نتقيد بهذا التفكير الثنائى الذى استقر فى طبيعة تكوين الإنسان لآلاف السنين، واشتد أثره حتى نشأت عنه المقابلة بين الروح والجسد والماديات والمعنويات على أنها أمور متناقضة ومختلفة كل الاختلاف ولا مفر من التخلص من كل ذلك إذا أردنا أن نجعل العلم والمعرفة شيئاً متصلاً مستقيماً اذا كنا نريد ان نلحق بالمعاصرة. • أستاذ الاقتصاد السياسى والمالية العامة – جامعة القاهرة.