عمار يا مصر
ظاهرة الهجرة غير الشرعية قضية تستحق المناقشة بعقل بارد وهدوء أعصاب رغم الألم الذي ينتج عن كوارثها المفجعة ومصائبها الكبيرة ، وحتى يكون النقاش جادا والحوار موضوعيا يجب أن نؤكد علي بعض الأمور الهامة ونستبعد بعض العبارات التي نطنطن بها في مثل هذه المواقف .
أولا- نؤكد علي أنه ليس هناك من يفرح في الموت أو يشمت فيه ، ومن يفعل ذلك ليس من صنف البشر ، وإن كان منهم فهو بالتأكيد بلا قلب أو ضمير أو مشاعر ، ونؤكد أيضا أنه لا شيء يساوي أو يعادل أن يفقد الإنسان حياته في لحظة خصوصا إذا كان يدرك أنه مقبل علي المجهول ، كما نؤكد أن السعي للحصول علي الرزق يتطلب الأخذ بالأسباب التي تؤدي إليه ، والتي ليس من بينها إلقاء النفس في التهلكة فما بالنا ورحلات الهجرة غير الشرعية محفوفة بالمخاطر وليس فيها أي ضمانات للأمان !
ثانيا – علينا أن ننحي جانبا كل عبارات التبرير والتماس الأعذار التي يحلو للبعض قولها مع كل كارثة تحدث بسبب هذه الهجرة غير الشرعية ، فالحديث عن حق هؤلاء الشباب والصبية والأطفال في حلم الثراء السريع هو كلام رومانسي لا يقوم علي منطق ولا يستند إلي حقيقة يدغدغ مشاعر الناس ويدق علي وتر تكرار المحاولات الفاشلة حتى يتحقق الحلم ، وعلينا أن نتوقف عن إلقاء اللوم علي الدولة أو الحكومة باعتبارها المسئول الوحيد عن هذه الكوارث حيث أن الحقيقة أن هناك أطراف عديدة شريكة في المسئولية وتتحمل نفس القدر من اللوم !
عندما تقع كارثة غرق مركب للهجرة غير الشرعية يأخذنا الحوار والجدل للحديث عن العرض ونترك المرض .. نفكر فقط في احتواء التداعيات الناجمة عن الكارثة ، ويبدأ مهرجان توزيع الاتهامات ، ولا يبدو علي السطح غير مصمصة الشفايف ، وعقد الحواجب ، ورسم تكشيرة الغضب علي الوجوه ، وتدور ماكينة الكلام ، ويزداد النواح علي مقام الهنك والرنك ، ويعلو مزاد الهتاف والنقد ، وتتعاظم المزايدات علي جثث الضحايا .. فمن يقول : الحكومة فشلت في إنقاذ الضحايا ، وكان يمكن لها أن تتخذ من الإجراءات ما يقلل عدد الموتى ! ، ومن يقول : الشباب يعمل إيه والبلد مخنوقة والدنيا زفت والعيشة مرار طافح ، ومن يقول : هذه مشكلة الحكومة وعليها توفير فرص العمل للشباب ، ومن يقول : الشباب يحلم كما يريد .. لماذا تحرموه من الحلم ؟ ومن يقول … ولا ينتهي الكلام .. ما هي فرصة للظهور والانتقام وتصفية الحسابات حتى ينتهي واجب العزاء ، وفي النهاية لا عزاء ولا يحزنون !
يختلط الحابل بالنابل ، ويمتطي موجة الحزن العاتية أصحاب المصالح وهات لت وعجن .. إعلاميون بعضهم متخصصون في سكب الزيت علي النار وهم يزرفون دموع التماسيح علي الضحايا، وبعضهم يتاجرون بفقر وعوز الضحايا وهم أبعد ما يكونون عن الإحساس بشعور الفقير والمحتاج.. لا يفكر أحد منهم ممن يحصلون علي مئات الآلاف من الجنيهات شهريا في البحث لهؤلاء عن فرصة عمل أو أن يرشدهم إلي أماكن العمل أو أن يزرع فيهم الأمل بدل الإحباط واليأس !
هل يمكن أن يكون هناك حل للظاهرة قبل أن نناقش أمر هؤلاء الصبية الذين يدفع بهم أهاليهم للموت وهم لم يصلوا إلي سن الرشد بعد ؟ هل نناقش كيف يتمكن هؤلاء الشباب والصبية من تدبير آلاف الجنيهات لسماسرة الموت في مقابل مغامرة محفوفة بالخطر يخيم عليها شبح الموت غرقا ؟ هل يمكن أن نطلب من الحكومة توفير فرصة عمل لأطفال في سن 12 و13 سنه مكانهم الطبيعي صفوف المدرسة والتعليم ؟ هل نناقش ضرورة تغيير القانون وتغليظ العقوبة علي سماسرة الموت إلي الأشغال المؤبدة أو الإعدام حتى يتحقق الردع ؟ هل نناقش ضرورة وأهمية تغيير ثقافة العمل في مناهج الدراسة وفي الإعلام بدلا من الحشو والهري والرغي بالساعات علي الفضائيات ؟ هل نناقش تقصير الحكومة في الإعلان عن أماكن العمل في المشروعات المفتوحة ؟ هل نناقش الشباب لماذا يقبل عمل في الخارج ولا يقبل مثيله في وطنه ؟
هذا ما يجب أن يناقشه المجتمع ويبحث عن إجابات لهذه الأسئلة بدلا من جلد الذات وإلقاء الاتهامات .. فليس من الشطارة أن نتسابق في اتهام الدولة في كل المصائب التي نرتكبها بأنفسنا .. كوارث الهجرة غير الشرعية لن تتوقف طالما لدينا شماعات العجز والفشل والتبرير.