بعد أن قدمنا فى الجزء الأول عيوب الآراء القديمة مثال “العلة الغائية” ، نبحث اليوم فى عامل آخر أدى إلى تشويه خاص فى علمنا كله. وذلك هو عجز الإنسان عن إدراك حقيقة “الزمن”، وطبيعته إدراكاً مباشرا، مما أدى هذا العجز إلى أن جعل للمعرفة حدا لن تستطيع أن تتعداه العقول البشرية.
الزمن حقيقة لا ريب فيها، ولكنه أكثر الأمور غموضاً على العقل. وذلك لأن الإنسان ليس له إحساس خاص يدرك به الزمن إدراكا مباشرا. وإنما ندركه بأثره فى الأشياء، ونقيسه بما يحدث فى الأشياء من تغيير. نقيسه بحركة نجم ولكن الزمن غامض كل الغموض، ولن نستطيع أن نتصوره مجرداً عن الأشياء. إنما نفهمه فى الواقع بتقدير أثره فى الأشياء أو أثر الأشياء فيه. أما فهمه مجرداً فلم يستطعه الإنسان بعد. ولا أعنى بالزمن هنا الزمن الكونى الرياضى المجرد الذى يعده الطبيعيون من العلماء البعد الرابح، ولا من الفيزيائى الذى يقيس به الرياضيون سرعة جسم يسقط. إنما أعنى على التحديد الزمن التاريخى الذى نعرفه بتتابع الحوادث فيه.
وتأتى أوجه الخطأ التى أحدثها العجز فى العقل البشرى كثيرة. منها تصورنا للزمن على أنه خط مستقيم له أول وله آخر، واتخاذنا إياه مقياسا لأشياء لا شأن له بها، واقحامنا إياه فى مجالات لا تخضع له، ثم أن هناك التشويه الخاص للمعرفة الذى يعرض لنا من جراء تصور الكون ذا أبعاد ثلاثية وإدماجنا للبعد الرابع (الزمن) فى هذه الأبعاد الثلاثة. فنحن حيث نقول إن الزمن له أول وله آخر إنما نقرر فى الواقع أن الحوادث المتتابعة هى التى لها أول ولها آخر وليس الزمن. ولا يصح هذا وصفا للزمن نفسه وأيضا ونحن، حيث نقيس بالزمن أشياء لا شأن لها به ولا شأن له بها نرتكب خطأ عقلياً عظيما، ومثال ذلك ما دأب عليه علماء الأحياء من اعتبار التطور فى الكائنات الحية عملاً زمنيا، وهذا فرض لا دليل عليه. فالتطور زيادة مطردة فى التعقيد التركيبى للكائنات وليس من الضرورى أن يقاس ذلك قياساً زمنياً إلى آخره من الأمثلة كعمر الكون وتحديده زمنيا، هذا خطأ عقلى يقوم على فرض أن الكون خاضع لقوانين الزمن التاريخى، وهو فرض لا دليل عليه أيضا. ولعل الحديث عن عمر الكون لا يعدو أن يكون كالحديث عن شجاعة الصخر أو أمانة البحر أو درجة حب النملة. ذلك أن كل شىء فى الكون خلقه الله عز وجل له مجموعة من القوانين يخضع لها ولا يخضع لغيرها.
أما تشويه المعرفة الناشئ عن عجزنا عن إدراك أربعة أبعاد فهو تشويه من نوع خاص. ذلك أننا إذا افترضنا مثلاً أن النملة لا تستطيع أن تدرك إلا بعدين اثنين هما الطول والعرض، فإن هذه النملة مهما يكن علمها بسطح الكرة كاملاً، ومهما يكن من كشفها بكل ما على السطح من أشياء فلن تستطيع أن تتصور بوضوح كامل الكرة الأرضية على حقيقتها. كذلك الإنسان يدرك الأبعاد الثلاثية إدراكا مباشرا، ولا يدرك البعد الرابع إلا تقديراً ولا مفر له من إدماج هذا البعد الرابع فى الأبعاد الثلاثة على نحو ما. وحيث إن الكون ذا أبعاد أربعة فالإنسان لا يستطيع أن يعرفه إلا كشىء لا نهائى غير محدود. وهذا التصوير يؤدى حتماً إلى تشويه فى المعرفة لا مناص منه
وفى النهاية يتبين من هذا أن للمعرفة الإنسانية حداً يتعلق بالأبعاد التى يدركها الإنسان إدراكاً مباشرا، والتى لا يدركها إلا تقديراً شخصياً. ثم أنه فى علمه بما يدركه تقديراً مضطراً إلى الخضوع لنوع خاص من التشويه لا مفر منه ولا يمنع ذلك من أن تكون صورة الكون فى العقل الإنسانى صورة دالة على بعض من الحقائق الصحيحة والكثير من الأخطاء التى لم تصوب بعد. !