كنت أشاهد التلفاز ذات يوم ، وأردت أن أزيد من قوة الاستقبال ، فأمسكت بالكابل الموصل للإشارة فزادت قوة الارسال. ثم خطر لي أني بالنسبة إلى هذا الجهاز لا أزيد عن أن أكون مجرد امتداد إلى السلك الموصل لطبق الاستقبال. وأني أنا الانسان الناطق العاقل أصبحت في نظر هذا الجهاز لا أزيد على أن أكون كتلة من مادة تزيد من طاقته على الارسال الأفضل. ثم اخذني التفكير في هذه الظاهرة إلى مغزى عميقاً قد تكشف عن طبيعة المعرفة وحدودها.
جهاز التلفاز والاستقبال لا يدركا إلا الموجات الأثيرية وهي أبسط القوانين الكونية وأدناها على الاطلاق.
وهي أدنى حتى من قوانين الذرة. فالجهاز الذي لا يدرك إلا إياها يعد حقاً أبسط الأجهزة والانسان أكمل الكائنات وأعقدها ، وهو خاضع لكل القوانين أدناها وأعلاها وتأثر الجهاز باتصاله بي يدل بالطبع على أنه عرفني ، فماذا أعرف هذا الجهاز المتناهي في البساطة من الانسان المتناهي في التعقيد؟ هل علم أولاً بوجودي؟ ، ولكنه لم يعلم من صفاتي إلا ما يتعلق بقانونه وهو أني فقط بالنسبة له موصل جيد في استقبال الترددات. غير ذلك لا يعرفها ولا يستطيع أن يعرفها أبداً!.
ويتضح من تلك المقدمة أن علاقة الأجهزة بالإنسان يقوم عليها الكون كله ، ولم يمنع ذلك أن يدرك الجهاز وجود الانسان وإن لم يدرك إلا القليل جداً من صفاته. ثم إن كل القوانين الكونية الكيميائية والفيزيائية والحيوانية والانسانية تعتبر عند أي جهاز ميتافيزيقية يعلم بوجودها ولا يعلم كنيتها.
فتجد أن الذرة تعلم بوجود القوانين ” مثل قوانين الموجات الأثيرية والكيميائية “لأثرها في حياتها ، ولكنها لن تعلم أبداً منها إلا ما يكون متعلقاً بقوانينها.
وبالنسبة لقوانين الفيزياء والقوانين الحيوانية والانسانية تكون معرفتها بها ناقصة. وهذه القوانين التي تعلو قانون الذرة تعد عندها “ميتافيزيقية”
وكذلك الحيوان لا يستطيع أن يدرك كل ما هو أدنى منه. ولكن فهمه للإنسان ينحصر في علمه بوجوده وفي علمه بما في الانسان من قوانين حيوانية . فالحيوان لا يفهم دوافع الانسان إلى تدليله أو تعذيبه ، أو تغذيته أو ذبحه. هذه المعنويات الانسانية لا يفهمها الحيوان وهي عنده أيضاً “ميتافيزيقية”.
ويأتي في النهاية موقف الانسان من القوانين التي هي أعلى منه ، لا يختلف الوضع في شيء ، فهو يعلم بوجود هذه القوى العليا وهي “الله تعالى” عند المؤمنين وهي “الطبيعة” عند الغير مؤمنين بوجود المولى عز وجل. ولكنه لن يفهم منها إلا ما هو انساني وهذا هو بالضبط ما فعله الانسان الذي وصل إلى اليقين في معرفته بالخالق الواحد الله سبحانه وتعالى. فهو تأكد من وجوده ، ولكن فهم لصفاته تعالى لا يمكن أن يكون إلا مقيداً بما هو انساني ، وما فوق الانسان من غموض يعد بالنسبة لبني ادم “ميتافيزيقياً” أيضاً وهذا ما سوف نفرد له مقالاً أخر. فاليتيم ليس يتم الأب و الأم بال فقير المعرفة و الادب