في مثل هذه الأيام التاريخية ، منذ ستة أعوام ، كانت مصرنا الغالية تشهد اندلاع ثورة شعبية عارمة ، لم تشهدها البلاد منذ أعوام عديده . كان العالم كله يراقب الشعب المصري الصبور وهو يغضب ويثور وينتفض ، حتي الشعوب العربية والأجنبية كانت تشاهد – من خلال وسائل إعلامها – وتتعجب من كثافة تلك الجموع الغفيرة والملايين الكثيرة التي افترشت الشوارع والميادين والطرق ، وظهرت بشكل مذهل في ميدان التحرير بوسط القاهره ، وتلألأت في مدن القناه ، وظهرت بقوه وتوسع في محافظات الدلتا ، وتجمَلت بمواطنيها في صعيد مصر ، وكأن نفس الصورة الثورية تتكرر في كل بقعه علي أرض الوطن ، والهدف واحد وهو .. الرحيل لمبارك ونظامه !!
اندلعت ثورة المصريين يوم جمعة الغضب ، ووصل ذلك الغضب إلي ذروته ، وخرجت الملايين تنادي ” عيش – حرية – عدالة إجتماعية ” ، الناس لم تعد تعرف الخوف الذي تملك منهم عقود طويلة ، الجموع خرجت وكأنهم كتله واحده لا تتجزأ ، حتي لا تضعف أو تنكسر فتتفتت ، الهتافات تعلو ، والحماس في ازدياد ، و الخيام صارت بلا حصر ، الجميع أعلن المكوث والبقاء في ميادين العاصمة والمحافظات ، وأبت تلك الملايين أن تمشي أو تغادر أماكنها أو العوده لبيوتهم حتي رحيل النظام الذي حرمهم أبسط حقوقهم ومطالبهم ، واعتقل الكثير من أولادهم ظلماً وعدواناً ، وبغير حق ، هذا النظام الذي تسبب في انتشار الأمراض والأوبئه بسبب إهماله وفشل حكوماته عن إدارة أزمات الوطن عبر السنين الطويله ..
كان حظ تلك الثورة ، أن تُولد في ليالي الشتاء القارس ، وتجد البرد يكاد أن يدُك عظام المعتصمون في الشوارع دكاً ، ولكن كانت عزيمة المصريون أقوي من برد الشتاء وأمطاره وصعوبة لياليه .. تشاهد الشباب بجوار المسنين وخلفهم نساء الأمه المصريه وبناتها والأطفال تشارك كل هؤلاء ، في إقامة الصلوات فوق كوبري قصر النيل العظيم . الأعداد لا تستطع حصرها ، بينما كانت قوات النظام المخلوع ، تُصدِر خراطيم المياه الضخمة والهائلة نحو وجوه وأجساد الراكعين والساجدين علي ذلك الكوبري ، لم يهرب المصلون من مدافع المياه التي بدت كالطلقات النارية ، لم يتحرك أحد ، وعندما تنظر إلي ميدان التحرير، تستحضر الحزن والآسي في قلبك ، من هول أعداد الجثامين التي فاضت أرواحها إلي بارئها ، قتلاً ودهساً وحرقاً وبغير ذلك من أساليب القتل التي أتقنها القناصون والقتله والفجرة ممن تربوا في أحضان النظام البائد .
كانت أقسام الشرطة تحترق ، ويظهر عالياً علي كورنيش النيل ، مبني ضخم وفخم ، وهو مبني الحزب الوطني الديمقراطي ، الذي شهد سنوات عديده من النعيم والخير والثراء ، ولكن فقط لرموز ذلك الحزب ، ولك أن تنظر الي ذلك المبني في أيام الثورة ، لتجده وقد طالته النيران من أعلاه إلي أسفله ، حتي صار بعدها بأيام ككتلة الفحم شديدة السواد ، ثم بعدها بأيام يتم حل ذلك الحزب الذي حكم واحتكر لفتره طويله ، ويُلقي برجاله الفاسدين خلف أسوار السجون .
كانت الأيام تمضي ، والميدان يستقبل الثوار والمتظاهرين من شتي المدن والمحافظات ، والإرادة تكتسب القوه ، وتتحلي بالعزيمة ، وتتزين بالصبر الجميل ، ولا تراجع عن أهداف الثورة المولودة بغير ميعاد ، وبدون أية ترتيبات ، ولكنها إرادة الله في شعب مصر المثابر، المتوكل علي ربه في كل شئونه .. ثم خرج مبارك يكرر الوعود ، ويؤكد استقالته مع ميعاد انتخابات الرئاسة القادمة ، شرط أن تهدأ الشوارع ويعود كل ثائر إلي بيته ، إلا أن الثوار رفضوا وازدادوا إصراراً وتوحداً ..
كان النظام في ارتباك وتخبط في اتخاذ القرارات يوماً بعد يوم .. الشارع المصري يغلي ، ومبارك في حيره وقلق من نصائح نائبه ومستشاريه ، وأنباء تتسرب من داخل القصر الجمهوري عن رفض الأسرة المصرية أن ترحل عن السلطه والسلطان وتترك القصر والتنعم والجاه ، وبالأخص في ذلك الظرف العصيب ، وبهذا الشكل المخزي ، بعد سنوات حُكم وتحكُم وصلت إلي ثلاثة عقود متواصلة !!
لم يجد مبارك بُداً ولا مفراً ، من الخضوع لنصيحة الناصحون وعلي رأسهم نائبه الراحل عمر سليمان ، بأن يتنحي عن شئون الحكم ، تاركاً إدارة البلاد لجيش مصر الأبي ، حتي خرج نائب الرئيس ببيان مكتوب ، انتظرته آذان وعيون وقلوب ملايين المصريين بعد فتره اعتصام وصلت الي ثمانية عشر يوماً ، ليؤكد البيان علي رحيل مبارك وتكليف المجلس الأعلي للقوات المسلحة بإدارة أمور الوطن ، لتعلو الأصوات والهتافات التي كادت أن تزلزل أرجاء الوطن فرحاً وطرباً وارتياحاً لنجاح ثورتهم الشعبية البيضاء ، وها هي الأيام تمر وقد مضي أربع سنوات كامله علي ميلاد ثورة خلعت حالفها النجاح أن تخلع رئيس ، وأن تمحو مشروع التوريث !!