شاءت الاقدار أن أحترف مهنة الصحافة دون أن يكون لى أحد من الاسرة الصغيرة او العائلة الكبيرة قريب لى أو بلدياتى ، اقلده أو أخطو خطواته على سبيل التقليد، وجاء اختيارى لدراسة الصحافة بعد سنوات من التفكير والارهاصات والرغبات للاجابة على سؤال خلال دراستى فى المرحلة الثانوية وهو.. ماذا أريد أن أكون؟ وما هى البدائل فى طموحاتى ورغباتى؟
من حسن الحظ أن كان الراديو صديقى منذ مراحل الطفولة، ففى مطلع الستينيات من القرن الماضى كانت اسرتى تنفرد بامتلاك مذياع بدائى، ثم تطور الموقف واشترينا مذياع من باكورة انتاج مصنع بنها للالكترونيات، بعد أن أتلفت جهاز ترنزستور الصغير كان أخى المهندس فكرى مخيمر قد قام بتجميعه وهو طالب ثانوى بشكل بدائى عباره عن مجموعة توصيلات والياف وسماعتين تلصقان بالاذن، وكنت أضعهما على اذناى فاستمع للاغانى والنشرات الاخبار والدردشات وياخذنى الفضول وأنا فى بدايات المرحلة الابتدائية لتفكيك الجهاز كى أعرف من الذى يتحدث؟ وكيف يلتقط هذا الجهاز هذه الاغانى والاحاديث؟.
كان جهاز الراديو الجديد بحجم كبير تقريبا بطول أربعين سم وعرض وارتفاع 20سنتيمتر، ويتطلب تشغيله 8 بطايات كبيرة( طرش) ، وكان والدى رحمه الله يحرص على تشغيله بصوت عال، مما يتطلب تغييرالحجارة مرتين اسبوعيا، أما فى شهر رمضان فيتم تغيرهم يوميا، فقد كان والدى يضعه فى شباك منزلنا الكائن بأحد الشوارع الرئيسية لقريتى ( شيبة قش ) قبل آذان المغرب بساعة ويطلقه لاعلى صوت كى يستمع القاصى والدانى، ويستمر فى البث حتى صلاة الفجر، وبذا تكون الحجارة قد قاربت على الانتهاء وبتعبير دارج بالقرية ( شحرت).
كان للراديو دور مهم ومحورى فى تربيتى وتثقيفى وتعليمى وغرث روح الولاء والانتماء والوطنية، لم يكن التليفزيون قد وجد آنذاك اللهم فى بعض المقاهى فى المدن، ابيض واسود، كنت انقل ما استقيه من الراديو وهذه المشاعر والاحاسيس والمعلومات الى زملائى بالمدرسة الابتدائية، وزملائى الذين التقى بهم من القرى المجاوره لنا خلال فترات اللقاءات الرياضية والمذاكرة بين الحقول، عندما نلتقى فترة العصارى على الطرقات ( الزراعية) كنت أجد منهم نهما وشغفا فى المعرفة، مما يشعرنى بالفخر والسمو كونى مهما بين أقرانى، وقد لعبت فيما بعد فى تكوين شخصيتى وتربيتى وثقافتى وتنشئتى الوطنية.
تميزت أيامنا فى القرية بالبساطة والسعاده، والاجواء النقية النفسية والصحية بشرا وطقسا وطبيعة، ايام سادها التواد والتكاتف والتراحم وهى من سمات أهلنا فى ذلك الزمن الجميل، كنا نعيش ليالينا فى ظلام دامس فى الشوارع، أما المنازل فيكفيها لمبة أو اثنان من لمبات الجاز الابيض، اضافة الى لمبة تخص كل تلميذ للمذاكرة، كل يوم تنظف زجاجتها الخارجية وتعمر بالجاز استعدادا لسهرة اليوم التالى ، ساعتان ثلاثة ثم نخلد للنوم والاستيقاظ مبكرا، ومع صلاة الفجر تجد أهالينا قد استيقظوا، وبدأت امهاتنا مهامهن باعداد طعام الافطار للاسرة بتسخين الخبز المخبوز فى المنزل على الراكية ( شالية وبها قوالح الذرة الناشفة) ، وكان العيب كل العيب أن تشترى أى أسرة خبزها من المدينة.
أذكر أنه فى أحد الايام أن طلبت والدتى رحمة الله عليها أن اشترى خبزا من المدينة نظرا لتعطل ماكينة الطحن اياما للاصلاح، يومها أعطتنى قطعة قماش بيضاء وأسرت الى أن اخفى الخبز فيها وتحت ملابسي، خشية ان يرانى احد فيعرف اننا ليس لدينا خبز بالبيت.
فى الشتاء يطول الليل، وتهطل الامطار وترخ بغزاة، وكانت بيوت القرية آنذاك مبنية من الطوب اللبن، وسقفها فى الغالب من الغاب أو جريد النخيل، ومن غزارة الامطار كانت المياه المتساقطة تتسلل من بين الغابات، وتتساقط على ساكنى الدور، فترتبك الحياة ويصبح المطر وبالا علينا، أما الشوارع فتغرق فى روبة الطين، ورغم ذلك لم تتوقف أو تتجمد الحياة، ولم يتوقف ذهابانا الى المدرسة فى هذه الظروف القاسية، وكثيرا ما كانت الاحذية تغوص وتلتصق فى الطين وتخرج القدم بلا حذاء، وكنا نضحك ونلهوا معا ونتندر على بعض ونحن فى طريقنا الى المدرسة.
أما الصيف فهو أفضل حالا بكثير من الشتاء، فتصبح البيوت كأنها مكيفة الهواء، وتعج القرية بأبنائها الدارسين بجامعات مصر، وبأبنائها الذين يعملون خارجها ويأتون الى أهاليهم بصحبة اسرهم لقضاء أجازاتهم الصيفية، فلم يكن فى مصر مصايف سوى مدينة الاسكندرية ورأس البر وجمصة ومرسي مطروح وكانت فى الغالب لعلية القوم وللافنديات.
فى الصباح يفترش الطلاب المقاعد والدكك امام منازلهم ويجلسون للعب الطاولة او الشطرنج او قراءة الصحف او تبادل الاحاديث الودية وبصحبتهم بعض اهاليهم من كبار العائلة، وعصرا البعض يتوجه الى ملعب الكرة او قضاء وقت ممتع بين نسمات الحقول وشواء الذرة، وهى الوجبة المفضلة للجميع.
كان الريف مضيافا، طبيعة واهالى، وكانت متعة القادمون الى القرى للاقامة معنا لاتضاهيها متعة فهم بين أهاليهم مستمتعين بحميمية اللقاءات الاسرية، وبطبيعة الجمال الريفى الخلاب، وبالاوقات التى يمضونها بين الحدائق والحقول.
كانت القرية مثلها كبقية قرى مصر، متواضعة فى خدماتها التعليمية والصحية والاجتماعية، كانت قريتى تتميز بوجود مدرسة ابتدائى تبرع بمبناها الذى يشبه القصر أحد أثرياء البلد، فاصبحت منارة تعليمية بالمنطقة، جاء اليها أبناء القرى المجاورة طلبا للعلم.
ومن مشاهد هذا الزمن الجميل، كان الجزارون يتجولون بشوارع القري يوما بالاسبوع وفى المناسبات الدينية والاجتماعية مصطحبين ذبائحهم وقد زينوها، ويسير خلفهم الاطفال مهللين ويعلنون باعلى صوت عن ذبائحهم قبيل الذبح، ليطمئن الناس على سلامتها، وان لم يفعل ذلك تلوكه اللسنة الناس بالسوء وبان ذبيحتة بها عيب.
ومن المشاهد التراجيدية الحزينة عند الوفاة يستدعى شخص متخصص من قرية مجاورة لنا بطبل كبير، يضعه مابين صدرة وبطنه ويمسك بعصا فى يده اليمنى واخرى فى اليسرى، ويقف فى مكان قريب من دار المتوفى ، ويطلق دقات حزينة مؤثرة ليعلم الناس بالقرية بوجود حالة وفاة، وكان يتقدم المراسم الجنائزية بامتار حتى المقابر، وهو يدق هذه الدقات الجنائزية الحزينة، ويبدو أنها عادة فرعونية قديمة انتشرت فى القرى حتى زمن قريب، ولكنها اندثرت وانتهت بوفاة (ابوالمجد ) طارق التراجيديا الفرعونية.