شاركت منذ ما يزيد على 10 أعوام، 20 من الاقتصاديين والقيادات التنفيذية من 17 دولة، في فريق عمل لدراسة الاستراتيجيات والسياسات التي حققت نموا مطردا وتنمية شاملة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى اندلاع الأزمة المالية العالمية في عام 2008.
قاد فريق العمل البروفيسور مايكل سبنس، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، كان الحوار والعمل مع هذا الفريق متعة حقيقة وفرصة فريدة لمشاركة مجموعة التقت فيها الخبرة والممارسة العملية والتراكم المعرفي من مختلف بقاع المعمورة.
ومما يسر من عمل هذه المجموعة ذات المشارب المختلفة، تلك القدرة المتميزة لمايكل سبنس على التنسيق والإعداد وعرض ما اتفق عليه الأعضاء وتوصلوا إليه من نتائج بتوازن ومهارة. وما أسعدني حقا في التعامل معه هو هذا التواضع الجم غير المصطنع الذي تتحلى به شخصيته.
وكان ينافسه في سمة التواضع وسخاء المشاركة العلمية، الاقتصادي الشهير صاحب نظرية النمو المعروفة باسمه روبرت سولو، الذي سبق سبنس في الحصول على جائزة نوبل.
انتهت هذه المجموعة، التي أطلق عليها مجموعة النمو والتنمية، بعد لقاءات عمل على مدار عامين، إلى تلخيص أهم مكونات النجاح في تحقيق النمو، حيث أكدت المجموعة أنه ليس هدفا في حد ذاته، لكنه المحرك الحيوي لإنجاز أهداف أساسية للأفراد والمجتمعات، بدءا من انتشالهم من قاع الفقر المدقع إلى توفير الموارد للارتقاء بالتعليم والرعاية الصحية ووضع الاقتصاد على مسار التنمية المستدامة.
وتبين أن الدول التي حققت إنجازا في مسار التنمية، مثل اليابان وسنغافورة وكوريا والصين وغيرها، تبنت استراتيجيات تضمنت 5 مكونات اشتركت فيها بدرجات مختلفة:
– تحقيق معدلات عالية لتراكم المدخرات والاستثمارات المحلية وبتوجه نحو المستقبل تطويرا للتعليم والصحة والبنية الأساسية.
– الاستقرار الاقتصادي الكلي بالسيطرة على عجزي الموازنة وميزان المدفوعات ومعدلات التضخم.
– الاندماج في الاقتصاد العالمي تصديرا وجذبا للاستثمارات وكسبا للمعارف.
– الاعتماد على الأسواق المنظمة في توجيه الموارد الاقتصادية.
– وجود حكومات ذات كفاءة ومصداقية، ملتزمة من خلال مؤسساتها بتحقيق أهداف التنمية.
هذا ما شهد به واقع التنمية المعاصرة في بلدان حققت إنجازات كبرى في مضمارها، فارتقت بمجتمعاتها واقتصاداتها، وتحولت من التخبط بين جدران مصائد التخلف إلى السبق في حلبات التقدم.
وهنا تبرز أهمية الأفكار، وفقا لما ذهب إليه الاقتصادي كينز، في صياغة السياسات الاقتصادية.
وتجد الأفكار قد تسبق في أهميتها وفي تشكيلها للسياسات، ما تحدث عنه كارل ماركس بشأن المصالح والدوافع الشخصية، وترى الأفكار وهي تتحين إتاحة الفرصة لها للبزوغ، عندما تتوفر الظروف المحيطة المواتية التى أشار لها جون ستيوارت ميل، أحد آباء علم الاقتصاد.
ويعين هذه الأفكار على تحقيق ما تصبو إليه أشخاص استثنائيون، وفقا لما وصفهم به الفيلسوف برتراند رسل.
تتفاعل وتتصارع هذه الأمور الأربعة من أفكار و مصالح وأشخاص استثنائيون وظروف محيطة لصياغة سياسة تتبع، فيكون لها ما لها من نتائج وآثار.
وفي هذا الشأن تجدر التذكرة بمقولة كينز، أن المشكلة ليست في تبني أفكار جديدة بقدر ما هي في التخلص من أفكار قديمة.
فمثلما أورد التقريران الصادران في عامي 2008 و2010 عن فريق عمل النمو و التنمية اقتراحات جديدة مهمة وتفصيلية لمكونات النمو الخمسة، فقد أوردا 22 مثلا لأفكار سيئة، حري بالدول التي تنشد نموا مطردا وتنمية شاملة، التخلي عنها وإليكم بعضا منها:
– تخفيض عجز الموازنة العامة على حساب الاستثمار العام في البنية الأساسية، أو تخفيض الانفاق العام ذي العائد الاجتماعي طويل الأجل مثل التعليم.
– محاولة حل مشكلة البطالة من خلال تعيينات جديدة لا يحتاجها الجهاز الإداري للدولة.
– فرض أسعار إدارية للسيطرة على التضخم بدلا من الاعتماد على السياسات الاقتصادية الكلية والمنافسة.
– منع تصدير سلع معينة لفترات طويلة لتخفيض الأسعار على حساب قطاع الإنتاج الزراعي أو الصناعي.
– مقاومة التنمية الحضرية و تدني الاستثمارات في البنية الأساسية للمدن.
– تجاهل الأبعاد البيئية في المراحل الأولى للنمو باعتبارها “رفاهية مكلفة”.
– تداول سعر صرف العملة المحلية بأعلى من قيمته مقابل العملات الدولية.
– سوء الرقابة على القطاع المالي والتدخل الإداري في النشاط المصرفي.
– قياس الأداء التعليمي بعدد المدارس أو بأعداد المدرجين في مراحل التعليم فحسب، بدلا من التركيز على جودة التعلم ونوعية التعليم.
– منح العاملين بالدولة، بما في ذلك المعلمون، أجورا تقل عما يقابل ما يتقاضاه نظراؤهم ومن هم بمهاراتهم في سوق العمل، والاعتماد في نظم الترقي على الأقدمية دون اعتبار لمعايير الأداء.
– دعم الطاقة باستثناء ما يجب أن تحصل عليه المجموعات المستحقة في المجتمع من دعم.
– تجاهل العمل بنظام عادل لتوزيع المكاسب والخسائر الاقتصادية في أوقات الرخاء كما في أوقات الأزمات.
– تركيز أولويات السياسة النقدية على متغيرات وقتية وتجاهل التراكمات والآثار طويلة الأجل.
– تبني سياسات مالية عامة لمواجهة الدورات الاقتصادية قصيرة المدى، دون اعتبار لعائد أو تكلفة للإنفاق العام وبلا خطة للاستدامة المالية بعد تجاوز الأزمات العارضة، بما يزيد من الدين العام.
يبدو أنه كلما زادت مثل هذه الأفكار الضارة بالاقتصاد وبتقدم المجتمع سوءا، اشتد تعثر الناس في تخلصهم منها، كما يكسبها مرور الزمن عليها ألفة وحصانة بألا تمس، خشية ضرر أكبر غير معلوم.
والناس على ذلك الحال من التعثر حتى تستفحل تكلفة الأزمات، بما يستحيل معها الاستمرار مع ما كان مألوفا أو محصنا.