هي ليست استعادة لظاهرة كانت تتجمل بها الحياة في مصر قبل مائة عام أو يزيد، بقدر ما هي حالة من الشوق الى الجدل والحوار حول قضايا وإشكاليات، منها ما لم يحسم نظرا للمتغيرات العصرية، ومنها ما يستدعي النظر في سياق اللحظة الراهنة بتجلياتها، إيجابية كانت أم سلبية.
عن ظاهرة ( الصالونات الثقافية) أتحدث… خاصة أنها بدأت تنتشر بشكل جمعي أخاذ، وبمضمون فكري نفاذ، تبدو حاجة المجتمع إليها ضرورية، لعل الميزان يعتدل..ربما، ليتنفس المجتمع بشكل طبيعي، فأنت إذا أردت تثبيت فكرة أو نشر دعوة أو تأكيد معتقد فلن تجد مثل الثقافة وسيلة خلاقة وفعالة، فالثقافة سياسة راقية، تبتعد عن الثرثرة التي تصدعنا ليل نهار، وتنأى برجالها عن «الهواة» الذين يتعاطونها فيجعلون منا حقول تجارب لهم.. فهي الأطول عمرا ، والأبقى أثرا، والأغزر فكرا، لذلك فإن الثقافة أسبق من السياسة، لكن أكثر الناس لا يعلمون، ولقد جاء في تقرير لمنظمة اليونسكو أن الناس في العالم صارت (تمل) من السياسة و(تميل) إلي الثقافة لكونها ميزة العبقرية الإنسانية، وباعتبارها السر الكامن وراء كل ما نمارسه، فهي الأبقى في الأذهان حين يطوي النسيان كل شيء، فاتسع معنى الثقافة وتجاوز مفهومها إلى آفاق أكثر رحابة.
أتوقف – مثالا لا حصرا- في أجواء«الصالون الثقافي» الذي يقيمه بشكل دوري في منزله د. أحمد جمال الدين موسى وزير التربية والتعليم الأسبق، والمفكر السياسي والاقتصادي والكاتب الروائى، كمبادرة ذاتية بروح جماعية، يقصده نخبة«حقيقية»من رجالات العلم والفكر والمعرفة والثقافة والسياسة والصحافة والتعليم وغيرها من المسارات.
وقد أجمعوا أمرهم منذ عام مضى على تقديم أطروحات شتى تهم المجتمع والناس، فمن ندوة«أوضاع التعليم في مصر» التي أدارها د. حسن القلا وتحدث فيها د. رضا أبو سريع، د. ملك زعلوك،وعصمت اللمعي. وآخرون .. إلى ندوة«التغيرات الاجتماعية والسلوكية التي أصابت المصريين في الفترة الأخيرة»وأدارها الوزير اللواء محسن النعماني، وتحدث فيها من المتخصصين: د. سهير لطفي، د. أحمد زايد، د. محمد أحمد غنيم.. إلى ندوة «العرب والغرب- إحتكاك وتأثير متبادل» التي آدارها د. مصطفى الفقي، وشارك فيها عدد كبير من الأعضاء من أبرزهم السفير د. محمد حجازي، د. سعيد اللاوندي د.حسين محمود، والسياسي الحقوقي أحمد عبد الحفيظ وآخرون.. ثم أمسية عن«الأدب الصوفي» تحدث فيها د. عمرو سرحان من خلال قراءتة الكاشفة لرواية «قواعد العشق الأربعون» وقد أدار الجلسة د. أحمد جمال الدين موسى.. ثم ندوة عن«صحة المصريين: الواقع والآفاق» التي تحدث فيه د. محمد غنيم، وأدار الصالون د. أحمد بيومي شهاب الدين، وشارك في الحوار عدد كبير من الحضور من أبرزهم أ.د. عمرو حلمي وزير الصحة الأسبق ود. حسن القلا وكيل وزارة الصحة الأسبق.. وندوة«العاصمة الجديدة ما لها وما عليها» وأدارها د. عمرو عزت سلامة، وتحدث فيها د. أيمن عاشور استشاري المشروع وعميد هندسة عين شمس والمهندس أيمن اسماعيل رئيس الشركة المنفذة للمشروع..ثم ندوة «آفاق التقدم العلمي في مصر» و أدارها د. أحمد أمين حمزة، واستضاف د. محمود صقر رئيس أكاديمية البحث العلمي ود. نبيل صالح الرئيس الأسبق للمركز القومي للبحوث .. وعلى ضياء هذه الإشكاليات بكل تعقيداتها يعزف الموسيقار د.رؤوف النفيس – في كل ليلة من ليالي الصالون – على العود بموسيقاه الأنيقة التي تدتدن بها القلوب المحبة للحياة..
وهكذا تنساب المتواليات الفكرية ذات القيمة والقيمة المضافة يتألق فيها شخصيات رفيعة من أهل الاختصاص، والتجربة والخبرة والممارسة العملية والعلمية، من رؤساء وأساتذة جامعات ووزراء وأطباء ومهندسين وإداريين ومفكرين وإعلاميين ومبدعين وفنانين وحقوقيين..، وكلهم في أفلاكهم يسبحون.
تقول لي عطاءات هذا الصالون: أن هذه النوعية من الحواريات الرفيعة والثمينة لا ينبغي أن تظل حبيسة جدران قاعاتها، إذ لابد أن تخرج الى المجتمع وصناع القرار، بأطروحاتها المثيرة لقضايا تمس المجتمع وتتماس مع الناس والأجيال الحاضرة والقادمة أيضا.
ومع أن نفي العيب عمن لا يستحق العيب .. عيب ، إلا أنني أود التأكيد على أن هذ النوعية من الصالونات الفكرية ليست واجهة اجتماعية، ولا ينبغي لها، لاسيما أن روادها تجاوزوا إطار«الشخص»إلى إطار «الشخصية» فلا هم يسعون الى الشهرة ، ولا هم يريدون الأضواء الخاطفة، هم نخب بمعنى الكلمة، نخب تفيد وتستفيد من تقليب تربة المجتمع، عمليا وعلميا، لتضيق المسافة بين التصور والتصديق، وما أحوجنا إلى إلغاء هذه المسافة المرعبة.
وباعتباري متابعا موضوعيا لهذا الصالون الراقي.. هل أقترح على الدكتور أحمد جمال الدين، أن يجمع هذه الحواريات في أكثر من وعاء إعلامي جماهيري، في شكل كتاب تتبناه إحدى دور النشر العامة أو الخاصة، أو برنامج تليفزيوني يستفيد منه ليس فقط عموم الناس، بل أيضا صناع القرار في كل مجال من مجلات الدولة والمجتمع؟.
أقول قولي هذا وأنا أستعيد – مثلا – ما فعله أستاذنا أنيس منصور مع د. طه حسين في البرنامج النادر الذي اجتمع فيه عمالقة الثقافة والسياسة والصحافة والفكر، ونشره في الكثير من مؤلقاته، ولا تزال هذه التجربة مضرب المثل في علاقة المثقفين بالمجتمع، وعلاقة المثقف بالسلطة، وهي علاقة شائكة وحساسة جدا، إذ يحدثنا التاريخ الحقيقي أنه كان من أحلام الملوك أن يكونوا فلاسفة، وكان من أحلام الفلاسفة أن يكونوا ملوكًا، وأن ثنائية المثقف والسلطة،سلطة المجتمع وسلطة الحكم، وعلاقة الكاتب بالحاكم، مسألة مثيرة للجدل، فكل سلطة تحتاج فكرًا، وكل حاكم يحتاج مفكرًا، فمثلا: الإسكندر الأكبر وأرسطو.. موسوليني ودانندسيو.. هتلر وروزبيج.. والرئيس التشكي «فاتسلاف هافيل» كاتب مسرحي وهو مهندس الثورة المخملية التي أسقطت الشيوعية في تشيكوسلوفاكيا في نوفمبر 1989.. وعبد الناصر وهيكل.. والسادات وأنيس منصور.. وغيرهم..