30 حزيران (يونيو) 2013؛ يوم لا ينسى في تاريخ مصر الحديثة، لأنه أخرج المصريين من شرنقة الظلام إلى آفاق النور فتنفسوا الصعداء بعدما ظنوا أن حكم جماعة «الإخوان المسلمين» قد يمتد سنوات لا يعلمها إلا الله. وكنتُ أعلم؛ بحكم موقعي رئيساً لقطاع الأخبار في اتحاد الإذاعة والتلفزيون في ذلك الوقت؛ أن الساعات المقبلة ستكون فارقة خصوصاً أن النظام الإخواني فقد سيطرته على مفاصل الدولة، وأصبح ممثله محمد مرسي معزولاً في قصر الرئاسة ولم تكن لديه قناة اتصال غير مع مكتب الإرشاد. أما التلفزيون الرسمي فكان قرر قبل ذلك ببضعة أيام؛ الانحياز إلى الشعب مع التزام المهنية في تغطية الأحداث المتوقعة. قمتُ بتوزيع المراسلين في شكل متوازن على تجمع «الإخوان» في ميدانَي رابعة العدوية والنهضة، وعلى تجمعات الجماهير الرافضة لحكمهم أمام قصر الاتحادية وفي ميدان التحرير. وطلبتُ من قطاع القنوات الإقليمية إمداد مبنى ماسبيرو على مدار الساعة بالمواد المصورة لأي فعاليات جماهيرية واعتمدنا تقسيم الشاشة لنقل أي أحداث مصورة من خلال النقل المباشر، واعتبرنا أن يوم الجمعة 28 حزيران «بروفة جنرال» لما سوف يحدث يوم الأحد.
خلال فترة حكم «الإخوان» كانت هناك ضغوط على الإعلام الرسمي، لكنني رفضتُ أي تدخل في عملي وطلبتُ من فريق العمل التنفيذي؛ بخاصة في أخبار التلفزيون من محررين ومخرجين ومراسلين ومذيعين، ألا ينفذوا سوى تعليماتي. وهكذا اختفى التابعون لمكتب الإرشاد من مبنى ماسبيرو، وتمركزوا في ميدان رابعة واشتكى لي المخرج في الموقع من تدخلهم في عمله بصورة سافرة. وقد حاول الإخوان يومي 28 و29 حزيران استعراض قوتهم في الحشد، والطريف أن وزير الإعلام الإخواني كان يتابع التغطية أولاً من قناتي «مصر 25»؛ التابعة للإخوان، و «الجزيرة» القطرية ثم يوجه ملاحظاته على ما يبثه التلفزيون المصري. هو أبدى امتعاضه أكثر من مرة من عدم إبراز تجمعات «الإخوان» بخاصة في المحافظات على رغم تقسيم شاشة التلفزيون بين مؤيديهم ومعارضيهم. بينما يرى المتابعون من الإخوان أن التوازن الذي يتبعه التلفزيون الرسمي «أمر غير مهني»، في وقت بات وزير الإعلام نفسه غير قادر على اتخاذ أي قرار، بعدما لاحظ بالنص أن «تلفزيون الدولة لم يعد مع الرئيس».
كنا ننتظر بياناً من المجلس الأعلى للقوات المسلحة، فيما كانت الشوارع والميادين تمتلئ بالجماهير ببطء. أُغلِقت أبواب مبنى ماسبيرو وأُحكِمت السيطرة الأمنية عليه. غادر الوزير المبنى للمرة الأخيرة عصر هذا اليوم ربما بتعليمات مِن مكتب الإرشاد. كانت غرفة الأخبار تجهز نشرة التاسعة وهي النشرة الرئيسية للقناة الأولى.
في الثامنة مساء تلقينا أول اتصال من إدارة الشؤون المعنوية مفاده أن شريطاً يتحرك نحو المبنى وكنتُ آنذاك مع إسماعيل الشتاوي رئيس الاتحاد والمخرج شكري أبو عميرة. توقعتُ وصول الشريط قبل نشرة التاسعة أو أثناءها. اتفقنا على أنه بمجرد وصول الشريط تُضم كل القنوات المرئية والشبكات الإذاعية على استوديو الأخبار بإشارة معينة وهي إذاعة أغنية شادية «يا حبيبتي يا مصر».
وفي الساعة الثامنة و50 دقيقة مساء وصل الشريط وانتقلنا إلى الأستوديو وفي الساعة التاسعة حبسنا الأنفاس حتى سمعنا صوت شادية يشدو ويتوحد الإرسال فيما تسلم مذيع الأستوديو مقدمة الخبر ليقدم الحدث الذي ينتظره الملايين وتُضم كل القنوات الفضائية في مصر والعالم العربي على القناة الأولى بالتلفزيون المصري الرسمي، فيما طيرت الخبر العاجل وكالات الأنباء وكثير من المحطات الإخبارية العالمية.
وبدأ الفريق أول عبدالفتاح السيسي وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة يلقي البيان في مؤتمر حضره رموز الأمة السياسية والدينية ويعلن أنه استجابة لإرادة جماهير الشعب المصري فقد تقرر تعطيل العمل بالدستور وعزل محمد مرسي وتولي رئيس المحكمة الدستورية العليا مقاليد الحكم حتى إجراء انتخابات رئاسية.
وحدد البيان خارطة للمستقبل من نقاط عدة تبدأ بإعداد دستور جديد يتم الاستفتاء عليه ثم تتوالى بعد ذلك بقية الاستحقاقات. ولم يتمالك الجميع أنفسهم وسالت دموع الفرح بنجاح الثورة وتعانقوا في لحظة تاريخية حاسمة اعتبرتها الإنجاز الأهم في حياتي المهنية على مدار أكثر من 38 عاماً. ولا شك في أن الساعات الحاسمة التي عشناها بكل مشاعرنا وقوانا يوم 3 تموز (يوليو) 2013 كانت أمراً طبيعياً لإنقاذ البلاد من حكم فاشي كاد أن يلقيها في هاوية التخلف والضلال. وعندما غادرت المبنى في الساعات الأولى من فجر يوم الرابع من تموز شعرت بأنني أتنفس هواءً مختلفاً عن ذي قبل (هواء بلا إخوان) وسرت بصعوبة بين الآلاف الذين أحاطوا بمبنى ماسبيرو وقد عادت البسمة إلى وجوههم وارتفع علم مصر في كل مكان، فيما غطت الألعاب النارية سماء العاصمة لتبدأ مصر صفحة جديدة من تاريخها.