المكان: فندق فينيقيا في بيروت. الزمان: سنوات الخمسينيات. الشخصيات: يوسف السباعي، إحسان عبد القدوس، وأنيس منصور. الحدث: الكتاب الثلاثة يقررون الانتحار الجماعي.
والذي حدث أن الكتاب الثلاثة قاموا بزيارة إلى بيروت وكانوا يجلسون حول الحمام في الفندق، واتخذوا قرارًا جماعيًا بالانتحار معًا، ولكل أسبابه.
أما يوسف السباعي فقد بنى قراره على اعتقاده بأن السعادة المطلقة مستحيلة، وإنما قدر قليل من السعادة والراحة والمال والعدل، صحيح أن الملح ضروي للطعام، لكن الملح نفسه في نظره ليس طعامًا، والسكر ضروي للطعام ولكن السكر وحده ليس طعامًا، وكذلك المرض والظلم من أعراض الحياة، ولكنّ هناك أناسًا أصحاء، ثم إن الصحة بعد المرض تجعل الإنسان أكثر تقديرًا للصحة، ولكن المشكلة التي تواجه الإنسان أنه متطرف بطبعه؛ فهو يأكل حتى يموت، كأن الهدف من الحياة هو أن يموت، وأن نسرع في ذلك، فالحياة قنطرة يجب أن نعبرها بسرعة، على أقدامنا أو على قدم وعصا، أو على أكتاف الغير، أو بسكاكين الغير، يقطعوننا ثم يقذفون بنا، قطعة قطعة إلى الشاطئ الآخر، وأن الاعتدال هو أصعب ما يواجه الإنسان، والناس يسمون الاعتدال جبنًا، ويسمون التهور شجاعة، ولا أحد يعرف بالضبط كيف يسلك الإنسان في حياته، فلا توجد قاعدة، فاختلفت القواعد والموازين والمكاييل، فالراحة هي أن تختفي الموازين والمكاييل والحسابات والقواعد بالموت.
وأما أنيس منصور فكانت أسبابه أنه درس المذاهب الفلسفية ودرَّسها في الجامعة، ودرس الأديان أيضًا، أكثر من عشرين دينًا، ولم يفهم أي شيء حوله، لا حياته ولا الكون، ولا يعرف الحكمة من وجوده، وأن الله أعطاه عقلًا صغيرًا وجعله يواجه ما لا نهاية من المعضلات، فازداد عجزًا عن فهم أي شيء، طفل صغير حافي القدمين مطلوب منه أن يعبر المحيط بلا سفينة، وأن يكون سعيدًا يدعو إلى الحياة، وتأسيسا على ذلك قرر أنه لابد أن ينهي حياته التي لا معنى لها ولا حكمة.
وأما إحسان عبد القدوس فكان يرى أنه لن يتحقق العدل السياسي والاجتماعي في هذه الدنيا؛ فالقوي هو الذي يضع القانون، وهو الذي يفرضه، والقانون صناعة الأغنياء، والمحاكم صناعة الأقوياء، والفقر مظلوم ولا أمل في تحقيق أي نوع من العدل له، ومهما حاول المفكرون والأدباء والفنانون فلا معنى لكل الذي يبذلون أنفسهم من أجله، فكل الفنون والآداب لها مهمة واحدة هي تسلية المظلوم قبل صدور الحكم، أي أثناء محاكمته، أو تسلية أهل المظلوم وإقناعهم بأن الدنيا حلوة، وإن كان واحد من الناس قد مات ظلمًا فليس معنى ذلك أن كل الناس سوف يموتون، وهذا كذب؛ فالفنان كاذب لأنه يريد أن يأكل عيشًا، والناس كاذبون على أنفسهم إن صدقوه؛ لأنهم على يقين من أنه مأجور الأقوياء الأغنياء، وبناءً على كل ذلك فالحياة في منظور إحسان عبد القدوس لا معنى لها، والموت هو الراحة الكبرى!
وتحسب الكتاب الثلاثة سؤالًا: ما الذي سوف يقوله الناس عنا، الزملاء الصحفيون والنقاد؟
يوسف السباعي يقول إنهم سوف يرون أنني: يجب أن أدخل جهنم، فقد عرفت عددًا كبيرًا من الفتيات، وأنني أخذت نصيبي في الدنيا، فليس معقولًا أن أدخل الجنة في الدنيا والآخرة.
وإحسان عبد القدوس كان يقول: لأنهم حاقدون علىّ لأن أمي هي صاحبة المجلة التي أكتب فيها، ولأنني ابنها الوحيد فقد جعلتني رئيس تحرير، ولن يلتفت أحد إلى معاركي السياسية والمشاكل الاجتماعية والعاطفية التي عالجتها في قصصي، ولولا أمي ما كنت ولا نشرت، منتهى الظلم.
وقال أنيس منصور: إنهم سيقولون عني إنني اشتغلت بالفلسفة وعباراتي جميلة، وإنني أتلاعب بالألفاظ، وقد دوخت الشباب ورائي حين أدخلتهم الفلسفة وأخرجتهم من الدين وأحرقتهم بالعواطف، ثم تركتهم أبحث غن غيرهم، إنني يجب أن ألقى العقاب نفسه الذي يلقاه شمشون الجبار الذي أطلق القطط المحترقة في حقول القمح في غزة، ولذلك ما دمت قد أحرقت الدنيا فلابد أن أحترق في الآخرة.
وأجمع الكتاب الثلاثة: “نستاهل الحرق بالنار.. نار جهنم”.
لكن أنيس منصور بذكائه الحاد روى لزميليه أنه في الآداب العالمية حاول كثير من الروائيين أن يصوروا قلق الفنان ورغبته في أن يعرف ما الذي سوف يقوله الناس عنه بعد موته، فوجدنا روايات كثيرة يختفي فيها الفنان عمدًا؛ ليقرأ ما تنشره الصحف عنه. لقد فزع الفنانون فوجدوا الناس يكذبون ويخترعون عنهم قصصًا لم تحدث، وإنما قالوا وقالوا، ولكن هؤلاء الفنانين فضلوا أن يظلوا بعيدًا عن العيون؛ فقد أيقنوا أنهم لو عادوا إلى الأضواء لخسروا كل الناس الذين مدحوهم كذبًا، والذين هاجموهم كذبًا أيضا، مثل الأديب السويسري ديرنمات والفيسلوف الإنجليزي برتراند راسل وصاحب جائزة نوبل ألفريد نوبل.
ومن المفارقة أنهم بعد أن سمعوا ذلك من أنيس منصور فإذا بيوسف السباعي يقول: “نعيش والسلام”، ويقول إحسان: “نعيش ونكتب هذه القصة لكي يضحك الناس على خيبتنا”.
روي لي أنيس منصور هذه الواقعة بعد ثلاثين عامًا من حدوثها، وهو يسرد لي صفحات من مذكراته في شارع الصحافة. وقد تذكرتها وأنا أعيش ذكرى كاتب كبير وأنيق وجميل مثل يوسف السباعي هذه الأيام.
