أدرك الرئيس الراحل جمال عبد الناصر أهمية وجود تلفزيون في مصر إبان معركة تأميم قناة السويس وخلال المواجهة مع الغرب في شأن أزمة سحب تمويل بناء السد العالي. فلم يكن التلفزيون مجرد آلة دعائية تواجه تلك الحملات المعادية لمصر إنما كان «مشروعاً تنويرياً» بالدرجة الأولى، يحافظ على الثوابت الوطنية ويرسي قواعد بناء العقل والفكر العربي. ومن ثم قرّر عبدالناصر تكليف عبدالقادر حاتم وضع مشروع تلفزيون الجمهورية العربية المتحدة الذي افتتح عام 1960، وأطلق عليه آنذاك «التلفزيون العربي». وكان ذاك العام نقطة الانتقال من مرحلة التحرر الوطني إلى مرحلة البناء والتحولات الاقتصادية والاجتماعية.
وبعد مرور سبعة وخمسين عاماً على إنشاء شاشات الخدمة العامة في مصر، يتذكّر جيلنا- الذي عاصر بداية التلفزيون متابعاً قناتيه الأولى والثانية- لهفة انتظار المسلسلات مثل «الضحية» و «الرحيل» و «هارب من الأيام» و «القط اGسود» و «العنب المر»، والبرامج مثل «عشرون سؤال»، و «لو كنت المسؤول» و «أحداث 24 ساعة». ولا ننسى أول ظهور للشيخ محمد متولي الشعرواي رحمه الله في برنامج «نور على نور»، وكذلك نجوم التلفزيون الأوائل أمثال ماما سميحة وهمت مصطفى وأحمد سمير وعبدالرحمن علي وصلاح زكي وليلى رستم وسلوى حجازي.
وفي خضم أزمة «ماسبيرو» الحالية، لا بد من قراءة جادة لواقع هذا التلفزيون الذي التحقتُ للعمل به (من دون واسطة)، وذلك بعد اجتياز سلسلة اختبارات شفوية وتحريرية وشخصية عام 1976، فكانت رحلة امتدت نحو 38 عاماً بدأتها مذيعًا واختتمتها المسؤول الأول عن قطاع الأخبار في مصر خلال أصعب فترات الإعلام المصري (2011 – 2013) ووثقتها في كتاب صدر عام 2015 بعنوان «اللحظات الحاسمة – شهادة من قلب ماسبيرو». وقد تبيّن أن ثمة أربع حقائق مؤكدة.
تلفزيون الخدمة العامة مكون أساسي من إعلام ماسبيرو، وهو رمانة الميزان للإعلام المصري. وفي فترة من الفترات كان تأثيره كبيراً في الإعلام العربي بخاصة في فترة الستينات من القرن الماضي، ولا يمكن نسيان دور إذاعة «صوت العرب» التي حملت على عاتقها مسؤولية العمل العربي المشترك وتأكيد مفهوم التضامن في خطابها الإعلامي.
تلفزيون الخدمة العامة كان دائماً في بؤرة الأحداث الكبرى، وقد دفع ثمن تحمّل مسؤولياته الوطنية لاسيما بعد ثورة 25 كانون الثاني (يناير) 2011 في مصر، وشكّل ماسبيرو همزة الوصل بين الميادين تمركزت فيها ما يمكن تسميته «الموجات الثورية» وجموع الشعب المصري كله. وفي الوقت ذاته تحمّل إعلام ماسبيرو مسؤولية الحفاظ على استمرار نقل نشاط مؤسسات الدولة أو بعبارة أخرى الحفاظ على الدولة المصرية.
نقل تلفزيون الخدمة العامة المتمثل في «إعلام ماسبيرو» في الفترة المذكورة- بمهنية تحسب له- الأحداث في الشارع المصري على الهواء، ما أدى إلى رفع صدقيته واسترداده ثقة مشاهديه بعد المعالجة الإعلامية «الفاشلة» في ما يعرف إعلامياً بالـ (18 يوماً) خلال اندلاع الثورة واعتصام الجماهير في ميدان التحرير، والتي أفقدته ثقة الجمهور نتيجة تجاهله تلك الثورة.
ساهم التلفزيون الرسمي بلا مبالغة أو ادعاء في إنجاح ثورة 30 حزيران (يونيو) عندما قرر الانحياز إلى أصحاب المصلحة في الإعلام وهو الشعب المصري. وإذا كان التلفزيون قد استمر يتحمل مسؤولياته الوطنية، على رغم مشكلاته المالية والفنية والإدارية ومحاولات بعضهم تشويه دوره، فهذا يعكس قوته وقدرته على العمل والاستمرار في ظل الظروف الصعبة وتحت ضغوط أوضاع غير عادية، ولهذا جاءت خطوة إصدار القانون المؤسسي لتنظيم الصحافة والإعلام عام 2017 محاولة لوضع نظام إعلامي جديد، وتحويل اتحاد الإذاعة والتلفزيون إلى «الهيئة الوطنية للإعلام» يتعين أن يشهد تحولاً نوعياً وليس تغييراً في المسميات فقط. وكانت الأمنية ألا ترث هيئة الإعلام مشكلات ماسبيرو المتراكمة ومنها أكثر من 25 بليون جنيه من الديون، وجهاز إداري تكبّله البيروقراطية المتعارضة مع المرونة التي يحتاجها الإعلام لإنجاح أي عملية إبداعية ويساعد في وقف حالة الفوضى التي يعاني منها الإعلام الخاص الذي تصور أنه منافس لماسبيرو.
ومع أن إعلام ماسبيرو يجب أن يكون خارج أي منافسة، باعتبار أن دوره مختلف عن دور الإعلام الخاص وكلاهما يمثل جناح الإعلام الوطني، يبقى أن نتطلع إلى أن يسترد التلفزيون المصري ريادته ويقود المجتمع المصري نحو مشروع قومي للتنوير يجدد فيه لغة الخطاب ويفتح آفاقاً جديدة للإبداع والتطوير.