الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: فقد يكون عنوان المقال غريباً شيئاً ما، إلا أنني لم أجد أبلغ من هذه الكلمة ﻷعبر بها عن تلك الأسرار العميقة، واللطائف الدقيقة، واللمحات الرقيقة، في هذه الشعيرة العتيقة!.
فالحج مستودع أسرار، وبحر عظيم زخار، وهو لغز محير، وعطاء متجدد متغير، ومدرسة عظيمة، ومنحة ربانية كريمة… في كل شعيرة من شعائره وفي كل منسك من مناسكه تتجلى حكمة جليلة، وغاية سامية، ودرس عظيم، ولو لم تكن الحكمة والغاية إلا التعبد والاتباع لكانت كافية وافية، وهذه حقيقة الإسلام، وجماع التسليم والإيمان!.
فالطواف مثلاً شعيرة من أعظم الشعائر، وهو الدوران حول الكعبة المشرفة بدءاً من مكان معين وانتهاءً بذات المكان، وكذلك حياة الإنسان ما هي إلا دورة من بدء الخلق من الأرض ثم النهاية بالعودة إلى الأرض (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى)، والدم في جسم الإنسان يسير في دورة منتظمة هي الدورة الدموية، كما أن كل شيء في هذه الأرض مكون من ذرات، وكل ذرة مكونة من نواة تدور حولها الإلكترونات، بل إن الأرض كلها تدور حول نفسها، وتدور حول الشمس، وكل شيء يدور (وكل في فلك يسبحون)!.
ثم السعي بين الصفا (الذي يدل على الصفاء) والمروة (التي تدل على المروءة) ما هو كذلك إلا درس عظيم، وإشارة مهمة، ودليل واضح على ضرورة السعي الحثيث في الأرض، والعمل الدؤوب، والأخذ بالأسباب مع التوكل على الله، كما فعلت هاجر عليها السلام، ثم السعي الأعظم وهو سعي الآخرة، وهما لا ينفصلان؛ إذ السعيان عند كل مؤمن فطن كلاهما للآخرة (ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً).
وكذلك الأضحية التي هي تقرب لله، ورمز للبذل والتضحية والفداء في سبيله، كما هي إشارة لضرورة الإنفاق والعطاء في سبيل تحصيل كل نفيس.
ثم رمي الجمرات الذي هو إعلان وإيذان بالانتصار على الشيطان، والانتصار على الشهوات، تأسياً بالخليل عليه السلام في طاعته لأمر الرحمن، وعصيانه ﻷمر الشيطان، ورجمه إياه، لمحاولته إغوائه وصده عن أمر الله… إلى آخر ذلك من المناسك والشعائر العظيمة المليئة بالدلائل والمسائل التي ما أجمل أن نقف معها ونتدبرها ونأخذ منها الدروس والعظات والعبر (فاعتبروا يا أولي الأبصار).