أرى تحولا جذريا فى السياسة العامة للدولة تجاه آليات دفع الاقتصاد والتنمية فى معالجة المشكلات الاقتصادية الهيكلية ( مثل عجز الموازنة العامة )، حيث يتمحور هذا التحول لتلك السياسة لأى مطلع على السياسة العامة للاقتصاد المصرى على مدار العهود السابقة فى ملخص وببساطة إلى أن النظم الضريبية فى البلاد كانت تعتمد وبصفة أساسية على الضرائب بكل أنواعها وخاصة “الضرائب غير المباشرة” فى تعظيم الحصيلة النقدية اللازمة لتمويل الميزانية العامة للدولة ( من سد العجز وزيادة ورفع مستوى الخدمات العامة ) ، الأمر الذى يعكس طبيعة البنيان الاقتصادى «الجبائى » فى مصر. وقد استلزمت هذه الطبيعة العقيمة لسنوات طويلة إلى تفضيل الضرائب بكل أشكالها على الإنتاج والتصدير كسياسة عامة اقتصادية للدولة، وعن الضرائب الأخرى و خاصة المباشرة منها، وذلك لأسباب عدة ألخصها فى الاعتبارات الآتية :
أولاً ؛ تعتبر الضرائب على الإنتاج والاستهلاك والتصدير والاستيراد أقل تأثراً بالتقلبات الاقتصادية من أى نوع من الضرائب الأخرى، وهو ما يعنى إذاً أن ثبات الحصيلة ووفرتها من تلك الأنواع غير المباشرة سابقة الذكر عن الضرائب المباشرة .
ثانيا؛ تعتبر الضرائب على الدخل قليلة الأهمية فى مصر ، نظراً لأن عددا كبيرا من السكان يعيش عند مستوى أقل من الحد الأدنى اللازم للمعيشة، وهو ما يعنى وقوع أغلب الدخول فى نطاق الإعفاء الضريبى ، وهو ما يترتب عليه أن الضرائب على الدخل فى مصر لا تصيب إلا نفراً قليلاً، وهو ما لا يكفى بالتالى لتمويل النفقات العامة.
ثالثا؛ ارتفاع حجم التجارة الخارجية (خاصة الاستيراد) وارتفاع نسبتها إلى الدخل القومى فى مصر ، وهو ما يعطى أهمية كبيرة للرسوم الجمركية ويفضى إلى ارتفاع الأسعار وزيادة الأعباء على المواطن العادى والفقير.
ومع هذا الوضع يمكن أن نخلص إلى أن النظام الضريبى فى مصر يؤدى بصفة عامة الى إعادة توزيع الدخل القومى فى غير صالح الطبقات ذات الدخول المحدودة ، ولا يحقق العدالة الضريبية ولا الاجتماعية. ويؤدى هذا الوضع إلى تأخر الأوضاع السياسية أيضاً، هذا بالإضافة إلى ضغط الاستهلاك (العام و الخاص)، وهو ما تضمنه الضرائب غير المباشرة أكثر من الضرائب المباشرة, ويزيد من الركود الاقتصادي, وهو ما لا نريده لمصر الآن.
وقد استخدمت لعهود طويلة هذه الحجة الاقتصادية فى تبرير سوء توزيع الدخل القومى بين الطبقات العاملة (أصحاب الأجور والمرتبات)، والطبقات الرأسمالية (أصحاب الأرباح ) خلال المراحل التاريخية الأولى من الثورة الصناعية فى دول أوروبا فى اوائل القرن الماضي. ويظل من الضرورى ( وإن كانت لا تقنعنى تلك الحجة الواهية ) أن ننبه إلى أهمية الضرائب غير المباشرة فى الدول الآخذة فى النمو إذ نلاحظ أن مثل هذه الدول (كمصر) ما زالت تحرص ؛ على الرغم من التحول العميق فى أنظمتها الاجتماعية والسياسية بعد ثورة 2011 وثورة 2013؛ على التوسع فى الضرائب غير المباشرة، وهى ثقيلة العبء، كما قدمنا، على الطبقات المتوسطة والفقيرة.
ويمكن أن نفسر ذلك برغبة الدولة فى هذه المرحلة ، فى إعادة توزيع الدخل القومى المصرى فى صالح المدخرات لحساب خزانة الدولة، على حساب الاستهلاك الخاص و العام . إلا أن هذا الوضع المقلوب فى رأيى ، يجب أن يصحح وأن تحاول الدولة زيادة الإعفاءات والرسوم ودعم عوامل الانتاج والتصدير والاستثمار المحلى والأجنبى ، وان تقوم الدولة بدورها فى التشغيل والانفاق العام الاستثمارى لا الجارى والتحويلى فقط، مع تفعيل دور الشراكة بين الحكومة والقطاع الخاص المحلى والأجنبى من خلال الوحدات المختلفة داخل الوزارات (مثل وزارات المالية والاستثمار والتجارة والصناعة والزراعة والتعاون الدولى)، وزيادة انتاج السلع الاجتماعية بأثمان اجتماعية ، بدلا من منافسة القطاع الخاص فى مجال السلع غير الضرورية، وتوجيه الانفاق العام للانتاج لا للاستهلاك.
والنظر أكثر الى تقويم جانب النفقات العامة فى الموازنة وترشيده، بدلا من التركيز فقط على جانب الايرادات والبحث كل يوم عن وسائل جديدة لزيادة الايرادات بأسلوب الجباية والذى يصب فى شكل أعباء اضافية على أفراد الشعب البسيط.
إن تحقيق التوازن المالى وتقليص عجز الموازنة العامة لأى دولة هو هدف مالى أحمد وسوف يعجل بالتنمية الشاملة دون شك، ولكن لايجب ابدا ان يكون على حساب الفقراء، فالانتاج خير من الجباية وقد ثبت ذلك بالتطبيق فى اغلب دول العالم التى سبقتنا فى التنمية الاقتصادية، ولو حدث ذلك التغيير الهيكلى فى نهج السياسة العامة من خلال ما طرحه السيد الرئيس من مشروعات قومية منتجة حقا, سوف تعود على مصر كلها بالخير وبتحسن ليس فقط اوضاع المنتج بل والمستخدم ايضا , لكان يومها البنيان الاقتصادى المصرى أفضل ولتحققت العدالة الاجتماعية والعدالة الضريبية .