كنت قد تحدّثت فى تلك المساحة فى المقال السابق عن موضوع التلويح الأمريكى المستمر من وقت إلى آخر بتخفيض أو إرجاء ما يُطلق عليه (المعونة) أو المساعدات الأمريكية لمصر، وما هى فى الأساس إلا تعويض عما نهبته إسرائيل من ثرواتنا فى سيناء أثناء فترة احتلالها -لكن ما علينا الآن- كما كنت قد أشرت فى عجالة إلى أن تلك المساعدات (بما تشمله من شق عسكرى وآخر اقتصادى) ما هى إلا رقم رمزى وأصبح هامشياً، فهى تقدر بنحو 290 مليون دولار، أى أنها تُمثل أقل من 2% من الدخل القومى المصرى، وبمناسبة هذا الحديث، أتذكر معكم ما كتبه الدكتور خالد رفعت صالح على صفحته الشخصية منذ فترة ساخراً معلقاً على تلك المعونة اللعينة حيث قال: «أحمد عز عرض 660 مليون جنيه للتصالح.. أمريكا بتضغط علينا بقطع معونة 290 مليون دولار.. يعنى لو احنا استردينا فلوسنا من 7 فاسدين بس.. مش هنحتاج الزفت المعونة».. (ومعاك حق والله يا د. خالد).
وأياً كانت قيمة تلك المساعدات كبيرة أم صغيرة، فهذا لا يعنى القبول باستخدامها للضغط على مصر سياسياً بأى حال من الأحوال.
ولما كنت قد اختتمت مقالى السابق بتلك الكلمات:
«وما الحياة كلها إلا وقفة عز فقط، لذا أطالب باتخاذ موقف عملى لمبادرة وطنية من مجلس النواب أو الحكومة بطلب (وقف تلقى المعونة الأمريكية). مع العلم التام بأن أمريكا لن تستجيب، لأنها ستُغلب صوت مصالحها حينها على كل الأصوات الأخرى، التى تقضى بعكس ما تُهدّدنا به!!!!. حيث إن تلك المعونة يحكمها إطار من المصالح المتبادلة استفادت وتستفيد منه الولايات المتحدة أكثر من مصر، إلا أنه يجب أن نأخذ موقفاً واضحاً ومبادراً لوقف تلك اللعبة الفاشلة لربط تلك المعونة بملف حقوق الإنسان لتتدخّل بشكل فجّ فى الشأن المصرى.
لذا سأستكمل معكم اليوم.. طارحة هذا السؤال: ألم يحن وقت الفصام من ارتباط طبيعة العلاقة بين القاهرة وواشنطن بالمناخ المصاحب للمعونات!!!
فعملياً ورغم الظرف الاقتصادى الصعب الذى تمر بها بلادنا، خصوصاً فى اللحظة الراهنة، فإنه يمكنها الاستغناء عن تلك المعونة الرمزية تماماً، خصوصاً فى ضوء تحويل تلك المساعدات إلى لعبة فى يد واشنطن، كأداة للضغط السياسى، فقد بات لازماً علينا أن نعيد النظر والتفكير فى الأمر، ولا يعنى كلامى هذا بأى حال من الأحوال الدعوة إلى استعداء أمريكا، فالنموذج المصرى مختلف جملة وتفصيلاً عن نموذج كوريا الشمالية مثلاً، وكذلك إيران، وأيضاً فنزويلا، وفى ظنى أننا بحاجة إلى خطاب جديد نوعاً ما فى التعامل مع السياسة الأمريكية نتجاوز فيه الحالة الراهنة، التى نُسرف خلالها فى الحديث السطحى أحياناً والمتخبّط، وربما الانفعالى أحياناً كثيرة، مستخدمين مصطلحات كالمؤامرة (والتى لا يمكن إنكارها بالطبع فهى أمر مؤكد، ولكن ما أعنيه هنا هو أن كثرة الإسراف فى التعويل على ذلك تضر أكثر ما تفيد)، وغيرها أيضاً من مصطلحات شبيهة، الأمر الذى يجعلنا دائماً فى موقف المظلومية وصاحب رد الفعل، وليس المبادر، صاحب الحق فى الدفاع عن مصالحه، فكفانا ما ترسّخ فى أذهاننا من أننا دائماً أتباع وضعفاء، فهذا ليس صحيحاً فى مجمله، خصوصاً بعد تجربتنا وما مر بنا من أحداث بعد ثورتى 25 يناير و30 يونيو.
ومن هنا فقد وجب علينا فى إطار المصارحة السياسية بين البلدين طرح فكرة عدم ربط (المعونة) بتطوير العلاقات السياسية أو الاقتصادية بين البلدين، واستيعاض ذلك بالتركيز على التبادل التجارى وجذب مزيد من الاستثمارات والشركات الأمريكية إلى السوق المصرية كبديل للجزء الاقتصادى، إضافة إلى أن ذلك يعد الأهم بالنسبة للاقتصاد المصرى. هذا من جانب، وعلى الجانب الآخر آن الأوان لأن نضع نصب أعيننا عدم قصر أى رهان سياسى على شخص الرئيس الأمريكى -وقد تأخرنا فى ذلك كثيراً- فأمريكا دولة مؤسسات، لذا يجب التواصل مع جميع مؤسساتها.