مر أربعة وأربعون عاما على انتصار حرب اكتوبر الذي غيرت كثيرا في النظريات العسكرية في الفترة اللاحقة للحرب العالمية الثانية وبعد ثلاث حروب خاضها العرب ضد إسرائيل ما دعاني كي أتامل وأسترجع ذكريات اليوم العظيم ” السادس من اكتوبر ” فقد كان مثل هذا اليوم وافق يوم سبت ووافق ايضا العاشر من شهر رمضان وكنا صائمين و نستعد لبدء العام الدراسي وعلى ما اذكر كنت في السنة الثانية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية ولكن في هذا اليوم كنت في دمياط بحكم أني من أبناء القناة وتقرر تهجير أهالي بورسعيد سنة 1969 مع تطوير حرب الاستنزاف وبناء حائط الصواريخ حيث لعبت منظومة الدفاع الجوي دورا اساسيا في مواجهة العدو الاسرائيلي الذي تساقطت طائراته في اجواء الوطن ولكن هذه المرة بجد وليس كما روج اعلام 1967 !.
وقبل حرب اكتوبر بـأشهر قليلة عملنا معسكرا لمنظمة الشباب ببورسعيد وحرصت مع زملائي على التجول في شوارع المدينة الخالية من سكانها وشعرت بالآسى لأنه انتابني إحساس باننا لن نعد مرة آخرى الى بورسعيد التي كنت أصفها دوما بعاشقة البحر والبحيرة والقناة وتوجهنا الى ممشى ديليسبس باحثين عن طائر النورس الذي كان رفيقا للمبوطية ولكن لم نجد شيئا كلاهما هجر المكان .
وبعد عودتي دمياط ازداد شعوري بالغصة والاحباط لأني اعتقدت أن التهجير قد يستغرق اياما ولكنه امتد لسنوات وفجأة و في يوم السادس من اكتوبر عام 1973 عند الساعة الثانية ظهرا وجدت فرحة عارمة بين الناس لأن الراديو كان يذيع البيان العسكري رقم ” 1 ” بصوت الاذاعي الراحل صبري سلامة بهدوئه الذي تعلمناه منه ودون انفعال او حماس يقول ” نجحت قواتنا المسلحة في عبور قناة السويس بطول خط المواجهة مع العدو ” وهنا ادركت ان الحلم الذي طال انتظاره قد تحقق لكن ساورني القلق و تذكرت لحظات الهزيمة القاسية في 67 وسرعان ما تبين لي أن الامر هذه المرة مختلفا .
و مع تواتر الأنباء والبيانات العسكرية عن سقوط خط بارليف المنيع ورفع العلم المصري على الضفة الشرقية للقناة توجهت على الفور مع اصدقائي نطلب التطوع في قوات الدفاع المدني والمقاومة الشعبية كما قررت جامعة القاهرة التدريب العسكري لكل الطلاب وانتظمت مع زملائي في التدريب بملاعب المدينة الجامعية وتعلمت خلاله كيفية استخدام البندقية الألي وبندقية آخرى كانت تسمى 7/62 نصف آلى .
وهكذا وقفت الجبهة الداخلية خلف القوات المسلحة الباسلة على خط النار التي صنعت ملحمة قتالية غير مسبوقة في التاريخ العسكري وحطمت اسطورة جيش اسرائيل الذي لا يقهر وبعد أقل من عام من نصر اكتوبر قرر الرئيس الراحل انور السادات عودة سكان مدن القناة الثلاث وانهاء حالة التهجير القاسية وعدت الى بورسعيد واول شيء قمت به بمجرد وصولي التوجه الى شط القناة ورغم ان القناة لم يتم اعادة افتتاحها الا في الخامس من يونيه 1975 إلا اني وجدت شيئا غريبا وجدت طائر النورس يرفرف بجناحيه ورايته يحوم بالقرب من معدية بورفؤاد كأنه عاد يهنأ مع شعوره بالنصر و مع عودة المهجرين الى بلادهم التي لم تعد مدن أشباح !!