حمل القلم والكتابة للناس مسئولية عظيمة، ولو علم الأدباء والكُتَّاب ما ينتظرهم من حساب يوم القيامة لما حملوا القلم وما كتبوا شيئًا؛ لصعوبة اللقاء في ذلك اليوم وعظمة الموقف، وفي هذا قال الرسول الأعظم، صلى الله عليه وآله: «يؤتى بصاحب القلم يوم القيامة في تابوت من نار يقفل عليه بأقفال من نار فينظر قلمه فيما أجراه، فإن كان أجراه في طاعة الله ورضوانه، فُكّ عنه التابوت، وإن كان أجراه في معصية الله هوى في التابوت سبعين خريفاً». (1)
ومن حقنا أن نتساءل ونقول: كم واحدًا من الأدباء وأصحاب القلم يجعلون الله سبحانه وتعالى نُصب أعينهم عندما تخط أقلامهم الأفكار التي تسيل من أدمغتهم؟ وكم واحدًا من الكتاب يراعي حدود الله والضوابط التي جعلها في بث الكلمة ونشرها؟ وكم واحدًا منهم يراعي حقوق الناس ويحافظ على كرامتهم ولا يمسّ بسمعتهم؟ وكم واحدًا من الأدباء يسعى إلى نشر مفاهيم الخير والعمل الصالح؟ وكم واحدًا منهم يحاول أن ينشر المفاهيم والقيم الانسانية، مثل التعاون والتكافل والتواصي؟
هناك مفاهيم واضحة وضعها الإسلام في إطار نشر الكلمة الطيبة، وما دمنا مسلمين وننتمي إلى هذا الدين الحنيف، ينبغي علينا الالتزام بها، ليس فقط لدواعٍ دينية بل لدواعٍ إنسانية أيضًا؛ لأن دعوة الإسلام هي لصالح البشرية جمعاء وإن الالتزام بها من شأنه تحقيق السعادة لها.
وإذا حاولنا أن نستكشف المفاهيم التي يدعو إليها الدين الإسلامي في إطار نشر الكلمة، سنجد أنها ذات مضامين عالية ترفع الإنسان من مستواه الأرضي المادي إلى مستويات رفيعة من الحياة المعنوية، والتي يتنازل فيها الفرد عن بعض خصائصه الذاتية من أجل حياة الأمة وسعادتها.
وقد اختصر القرآن الكريم جميع تلك المفاهيم بكلمة واحدة وهي: «طيّبة»، فالكلمة المقروءة أو المكتوبة أو المسموعة يجب أن تكون طيبة، حتى يكون لها الدور الطيب في بناء الأمة وسعادتها وتطورها، وربما تكون هذه الكلمة هي الأبلغ من أية كلمة أخرى في الحديث عن الرسالة الإعلامية النافعة، ومن مواصفات هذه الرسالة؛ ليس بالضرورة أن يجري الحديث عن الأمور الجزئية، لندع المجال للكاتب بأن يبدع في مجال الكلمة الطيبة، وأن يفتح خياله فيما يمكن أن يكون مثلاً للكلمة الخبيثة، فالكاتب وفي إطار الكلمة الطيبة سيعرف مفاهيم الخير التي يدعو إليها الإسلام الحنيف، وهو أيضاً وفي إطار الكلمة الخبيثة، سيعرف أيضًا ما ينبغي عليه أن يتجنبه.
من هنا، فليس الأديب بحاجة إلى من يقول له؛ بأن هذا حسن وذاك سيئ؛ لأن الكلمة الطيبة هي المعيار الأساس، والعقل هو الحجة، وجاء في القرآن الكريم بأن الانسان مسئول:
{بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ}،(سورة القيامة/14- 15). والقرآن الكريم يحترم القلم ويكرم أهله، وقد نزلت آيات في تعظيم القلم، تقول الآية الكريمة في «سورة القلم»: {ن * وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}، في إشارة واضحة لأهمية القلم وأهمية دوره في بناء الحياة الإنسانية، فالقلم في بداية الأمر هو أهم وسيلة للتواصل بين أبناء البشر، كما أن الكاتب يعبر عن مكنوناته الفكرية إلى الشخص الآخر عن طريق الكتابة بالقلم، فربما كان الكاتب في الشرق والقارئ في الغرب والعكس أيضًا.
وكانت الكتابة بالقلم هي من العلوم الأولية التي تعلمها الإنسان من الله سبحانه وتعالى، وقال القرآن الكريم في هذا الشأن:
﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾، (سورة العلق/4) فمن أهم العلوم التي يمكن أن يتعلمها الإنسان هو علم الكتابة بالقلم، على الحروف ومواقعها في الكلمة.
إن تعلم الكتابة بالقلم، ساعد الأقوام السابقة بأن تكتب تاريخها. وتسجل الأحداث التي وقعت لها، والحروب التي جرت عليها، والتطور الذي رافق فترة نموها الحضاري، وقد استفادت الشعوب المتأخرة من ذلك التاريخ، لأن كل تجربة بشرية، تساهم في بناء الحضارة الإنسانية.
وأهمية الكتابة يجب أن يعرفها أهل القلم، حتى يتمكنوا من أن يعطوها حقها، فليس كل من مسك القلم وخطَّ بيده أصبح كاتبًا بارعًا، فربما كان متقنًا لكتابة الحروف، وبارعًا في تصنيفات الكلمة، لكنه فاشلاً في توجيه الفكرة، وعاجزًا عن بيان الغاية من ذلك.
فالقلم سلاح ذو حدين، ويمكن أن يستخدم لصالح الخير أو لصالح الشر، فهناك أدباء وكتاب ومفكرون حملوا راية الدفاع عن الطغاة والمجرمين، كما هنالك من يبررون أعمال القتل والاجرام بحق الإنسانية، وآخرون يمجدون من لا يستحق التمجيد ويهمشون من يستحق الرفع والعلو، وهناك من يعمل على تفتيت الأمة وتفكيك أوصالها من خلال افكار بعيدة عن الواقع تعود بجذورها الى الحضارة الغربية.
وإذا أردنا أن نأتي بمثل حول أهمية دور الكتاب والأدباء في حياة الأمة، سيكون ذلك محل استغراب الكثير من الناس، والمثل هو: أن الكتاب والأدباء على اتصال مباشر مع الأمة وأكثر من اتصال العلماء والمفكرين، فعالم الدين ربما يكتب في السنة كتابًا واحدًا، بينما الأديب يكتب كل يوم، وله فكرة، ورأي في كل يوم، وله تأثير يومي على الأحداث وعلى ثقافة الأمة.
وبهذا الحجم من التأثير والدور الكبير في حياة الأمة، وبنفس المستوى من المسؤولية الملقاة على عاتقه، يجب أن يكون مليئاً بالثقافة والفكر والفهم والعلم حتى يكون مرضياً عند الله وعند الأمة، فليس هذا مقاماً للجهلة والمشعوذين والدجالين والعبثيين الذين يبثون الشكوك في قلوب الأمة ويحرفونهم عن دينهم القويم، فهؤلاء ليس لهم صراط إلا الضلالة والتيه العظيم، وما وصلت إليه أمتنا من الانحطاط إلا نتيجة لفكر هؤلاء العبثيين الساذجين الذين لا يعرفون ما ينتظرهم يوم الجزاء الأوفى.
من هنا نعرف؛ أيّ مستوى من العلم والدين والفقه والفكر، يجب أن يكون من له اتصال وتأثير على الناس أكثر، حتى من اتصال العلماء!
صحيح؛ نحن نطالب باتصال أكبر بين العلماء والناس من أجل التأثير في حياتهم الخاصة والعامة، لكن الواقع الموجود، هو واقع مقلوب ويجب العمل من أجل تصحيحه، وأن يعاد للعلماء مكانتهم الحقيقية في الأمة بعدما سلبها الطغاة والمتجبّرون، لكن عندما يجري الحديث عن هذا الواقع وتحليله، فعلينا أن نكون صادقين مع أنفسنا ومع الأمة، وفي هذا الواقع يجب أن نقول بأن الأدباء والكتاب أخذوا مكانة ثقافية مرموقة ويجب أن يكونوا بمستوى هذه المكانة والمسئولية.
فعلى أقل التقادير، يجب أن يكونوا على اطلاع بالثقافة الإسلامية والمبادئ الإيمانية وبصائر القرآن الكريم، حتى لا يصبحوا في يوم من الأيام «أبواقًا» دعائية ضد الإسلام، فأكثر الذين يعارضون مبادئ الدين الحنيف، بشكل علني أو مموه، في حقيقة الأمر لا يعرفون شيئًا عن الإسلام، ولا يدركون مفاهيمه العالية.
نحن لا نفرض على الأدباء والكتاب بأن يصبحوا فقهاء، لكن طبيعة عملهم تفرض عليهم أن يكونوا على اطلاع واسع بثقافات العالم، وبدرجة أولى، بالثقافة الإسلامية ماداموا يعدّون أنفسهم مسلمين، والإسلام لا يدعو إلى نظريات مجردة وقيم سماوية بعيدة عن حاجة الإنسان، فكل قيم السماء هي على اتصال بمصلحة الإنسان المعنوية والمادية وما من تشريع سماوي إلا ويصب في مصلحة الإنسان.