لا تحسبوا هذه السلسلة من المقالات ترفًا.. إذ تتخذ مادتها من لعبة الفن الحديث أو الفن التشكيلي.. بل هي جزء لا يتجزأ من اللعبة السياسية التي يمارسها الذين يتحكمون في العالم كحكومة خفية تدير بطريقتها شئون العالم، الذي من أكبر نقائصه أن متغيراته تطغى على ثوابته، ومن ثم لا ينبغي أن نتعجب من هذا الاهتزاز في كل شيء حولنا..!
لقد دخلت السياسة والاقتصاد دائرة الفن بشكل أصبح يسيطر على الاتجاهات الأيديولوجية للمجتمع بشكل سافر.. وهذه الصلة ليست وليدة اليوم.. إلا أنها لم تتسع أبدا بهذا الشكل.. ولم تتخذ هذه الحدة مثلما حدث مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين، حيث تعدى فيها تداخل الفن وعاد ليخرج من دائرة الفنانين والتجار ليتوغل في كيان المجتمع.
لكن ما الداعي لإثارة هذه القضية الآن….؟
السبب ببساطة معقدة هو اقتناء هذا الثري العربي جدا الذي اشترى لوحة تشكيلية بمبلغ 450.3 مليون دولار -نحو المليار جنيه- وهي اللوحة التي رسمها الفنان ليوناردو دافنشي، واسمها لوحة “سلفاتور موندي”، وهو رقم قياسي في تاريخ الفنون في العالم، وتعني كلمة “سلفاتور موندي” باللاتينية القديمة، مُخلِّص العالم Savior of the World، وهو موضوع اللوحة التي تصوّر المسيح كما رسمه دافنشي مطلع القرن السادس عشر الميلادي، وهو يرتدي لباسًا من عصور النهضة، جالسًا ورافعًا يده اليمنى في وضعية منح البركة، حيث يبدو أصبعان مرفوعان لأعلى هما السبابة والوسطى، في حين يحمل في يده اليسرى مفتوحة كرة من الكريستال البللوري ترمز إلى الكون والسماء.
وتقول المعلومات إنه قد تم التعرف على عشرين نسخة من هذا العمل، رسمها تلامذة دافنشي وأتباعه، بواسطة الطباشير التحضيرية والحبر على قماش نسيجي، ولفترة طويلة ظلت اللوحة الأصيلة التي رسمها دافنشي غير محددة، إلى أن تم اكتشافها وأعيد عرضها في عام 2011 في المعرض الوطني بلندن، بعد أن خضعت لعملية ترميم، ضمن معرض ضخم لأعمال الفنان دافنشي؛ أقيم في نوفمبر من ذلك العام. وفي 15 نوفمبر من هذا العام عرضت اللوحة في مزاد من قبل كريستيز في نيويورك، وقد رسمت اللوحة بين عامي 1506 و1516 لأجل الملك لويس الثاني عشر ملك فرنسا وآن بريتاني التي كانت حاكمة ودوقة بريتاني والملكة القرينة لفرنسا، وقد كانت ضمن المجموعة الفنية التي يملكها تشارلز الأول ملك إنجلترا في القرن السابع عشر؛ وفي الظهور قبل الأخير لها عرضت في لندن بالمتحف الوطني في الفترة من 9 نوفمبر 2011 إلى 5 فبراير 2012.
لماذا اشترى ذلك الثري العربي جدا هذه اللوحة وبهذا المبلغ الضخم جدا؟
هل هو عشق للجمال الفني؟ وأن اقتناء لوحة شهيرة هو اقتناء لمدرسة فنية.
أم هي تجارة؟ أم استثمار؟
ثم لماذا تتدخل الدول لشراء اللوحات العالمية وتدفع ملايين الدولارات؟.. وهي تتجاوز بذلك المسألة الفردية.. فإحدى الدول الكبرى أصبحت في كل بورصة موجودة لتقديم أضخم الأرقام لشراء أية لوحة.
لا بد أن المسألة كبيرة.. هناك علامات استفهام ضخمة وراءها.. أو قل هناك من يوظفها ليس فردا ولا جماعة ولكن قوى واتجاهات.. إنها شركات توظيف اللوحات..!
التجريد الإبداعي.. فن التصوير المتطاير.. فن الإعلان الممزق.. المذهب الفني الكهربائي.. جماعة الدائرة والمربع.. مدرسة فن القمامة.. مدرسة الشراسة.. التكعيبية التحليلية ذات الميول التجريدية.. الدادية.. مذهب الاعتراض.. جماعة ذيل الحمار.. المدرسة الحوشية.. مذهب الدعك.. والدخن.. والكحتية.. فن الحافة الحادة.. السحابيون.. مذهب السطح المساند.. جماعة الولد الديناري.. جمعية الحمار الوحشي.. مدرسة أولم..
و.. تطول القائمة إلى أكثر من 150 مدرسة حديثة في الفن.. إنها اتجاهات ومذاهب فنية حديثة بدأت منذ عام 1900 ولا تزال مستمرة.. لماذا؟.. هل هي ضرورة فنية؟.. أم أن هذه الظاهرة هي أداة (تدمير الحضارة) و(تنجير بالفن.. ولمصلحة من؟).
عندما تسوء أحوال البورصة.. تسوء الأحوال الفنية.. إنها حقيقة يقرها تجار الفن ومقتنو اللوحات.. ترى ما العلاقة بين هذه المتناقضات أو المختلفات؟.. ولماذا أصبح التعامل مع اللوحات كوسيلة استثمار؟.. وكقيمة للمضاربة في البورصة؟.. وكقيمة إيداع بلغة البنوك والتعاملات المالية والأعمال الدعائية؟
ولماذا أصبح الفن مرتبطًا بتعبيرات مثل الاحتكار والتدمير.. والاستثمار.. واليهودية العالمية.. والماسونية؟
ولماذا اتخذت معظم الثورات الاجتماعية في مطلع هذا العصر الفن التصويري بالذات كسلاح من أسلحتها، بل يقال إن فن التصوير كان دائما سباقًا على الثورات الاجتماعية؟
هذه التساؤلات وعشرات غيرها تثار دائما.. كلما شاهدنا معرضًا للفنون التشكيلية.. أو سمعنا خبرًا تتناقله وكالات الأنباء.. لوحة فنية بيعت في مزاد علني بخمسة ملايين من الدولارات.. صورة لفنان اشتراها أحد رجال الأعمال بخمسين مليون دولار.. كل لوحة بعدة ملايين.. وهكذا.. ننظر في اللوحة أنا وأنت.. ونلتزم الصمت على مضض.. أو تزوم بشفتيك، وهو أضعف الإيمان..
و(لعبة الفن الحديث) هو عنوان الكتاب الذي أقدمه في هذه القضية.. ومؤلفته هي الدكتورة زينب عبد العزيز.. ويحمل الكثير والمثير في كشف اللعبة.. وافتضاح أمر (مافيا الفن) إنه مصباح يكشف هذه الأطروحة الخطرة.. وبقدر ما ينير ضوء هذا المصباح مساحة واسعة بقدر ما يكشف مساحة الإظلام..!
تتحدث المؤلفة في الفصل الأول عن النظرة التاريخية للفن الحديث كأداة تدمير متعمدة، وظاهرة انتشاره ثم عملية (تنجيره) أو تحويله إلى سلعة تجارية، ثم دوره في أهم البلدان وأهم مذاهبه.
ثم تفرد الفصل الثاني لجهاز الغش وتكشف العناصر المستخدمة في هذه اللعبة التدميرية، بدءًا بالفنان مرورًا بجامعي التحف والتجار والبورصة والمستثمرين والاحتكار وصولا إلى المافيا والأيدي الخفية للعبة.
بينما تفرد الفصل الثالث للحديث عن (التدمير بالمطرقة)، وتتناول أساليب التدمير التي حاولت أن تتلفع بالفلسفة في معاقل محركي (لعبة الفن الحديث).
وحين تنتهي من قراءة هذا الكتاب.. يتأكد لديك أن كلمة (لعبة) التي هي عنوان البحث والمستخدمة فيه ليست ـبالفعلـ كلمة جزافية أو عشوائية، وإنما تم اختيارها بكل ما تحمله الكلمة من معان متعددة.. إذ إنها تكشف ذلك التداخل المرتب مسبقًا لمحركي الفن الحديث بقدر ما تعبر عن التلاعب بالطموحات الإنسانية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية.