اغتصبتها الدنيا.. راودتها الأيام عن نفسها.. فكانت تجيب وتستجيب إلا قليلا. تقاذفتها الأيام على أمواجها.. تبادلتها الليالي ليلة أثر ليلة.. كانت ترتدي الأقنعة.. وتختفي ولا تكاد تبين.. ومضى بها قطار العمر عشرات المحطات.. يممت عمرها شطر النصف الآخر.. فأعلنت عليها شمس العمر احمرارها فأسدلت خيوطها الصفراء.. كبرت أمامها علامة (انتباه).. فتنبهت وانتبهت.. وإذا الفجر تطل عيونه في عيونها نذيرا ثم بشيرا.. وما بين “الشرارة” و”الإشارة” و”البشارة” راحت تعيش من العمر مرحلة التعريض والتعويض والتفويض، وتمارس الاختصار والانتصار والانتظار. انتظار ما يجيء وما لا يجيء.. هبطت على قلبها أشعة من المحل الأرفع، عوضا عما أهدرته من السنين.. فوضت الأمر.. إلا قليلا.. راحت تمارس ثقافة الأسئلة.. تريد لمصباح روحها أن يشتعل.. لعله يتوهج.. لا ترضى بالإجابات الجاهزة، ولا ترتضي بالحلول المعلبة.. راحت تقرأ.. تحاور.. تجادل.. حتى ولو على طريقة لا بد من لمس النار لتتأكد أنها نار.. لعلها تجد على النار هدى..! قرأت وسمعت وأنصتت لكن قلبها لم يخفق كثيرًا لتلك الصيغ المحفوظة والمألوفة، التي فقدت بريقها من جراء تداولها واستهلاكها في محلها وفي غير محلها. عزفت عن التمذهب، فكل إنسان طائره في عنقه. وبنفس قوة “العزف عن” الموروث والسائد والمألوف، تجلت قوة “العزف على” وتر الروح، بومضة توهج بها القلب.. ألقت بنفسها ونفيسها في المحيط الذي لا يعرف إلا السباحة والتسبيح والحركة.. لم تعد الدنيا تساوي عندها ما كانت تساويه بالأمس.. كل شيء لديها أصبح له معنى آخر.. إنها مشغولة بالماوراء.. والماوراء عالم ليس له حدود.. ولا قيود.. تريد أن تخترق حتى لو تحترق… أصبحت تشعر بالأمان، والأمان قيمة عزيزة على النفس، في هذا الزمن الذي يعز فيه الأمان.. من النقيض إلى النقيض.. من الخواء إلى الفيضان.. من القحط إلى الثراء.. من العطش إلى الرواء.. من ثرثرة الأيام إلى الصمت المتفجر كالزلزال.. هبت عليها نسائم من حمم البراكين المادية والجدلية المتوحشة.. تجليات الأمان في تنزلات الإيمان.. نعم الأمان في الإيمان.. والإيمان كتاب مفتوح.. في المطلق.. ولا يقبل أن ينغلق..