ما يحدث في سوريا الآن هو، بكل المعاني، ممارسات لسياسة “حافة الهاوية” من جانب كل الأطراف دولية كانت أم إقليمية على نحو ما يحدث بين كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وبين روسيا في ملفات عدة أبرزها اتهامات أمريكية وبريطانية وفرنسية لروسيا بالتستر على انتهاكات الجيش السوري لقرار مجلس الأمن رقم 401 الداعي إلى هدنة لوقف القتال في الغوطة الشرقية لدمشق، وتهديدات أمريكية وفرنسية وبريطانية بـ “رد حازم مشترك” إذا ما تم تأكيد قيام القوات السورية بشن هجمات كيماوية جديدة، على نحو ما جاء في الاتصال التليفوني الذي أجراه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، أو على نحو ما جاء على لسان المندوبة الأمريكية في مجلس الأمن نيكي هايلي خلال جلسة عقدها المجلس لمناقشة فشل وقف إطلاق النار في الغوطة الشرقية لدمشق التي قالت أن الولايات المتحدة “مستعدة لو اضطرنا للتحرك العسكري مجدداً”، على نحو الاستهداف الأمريكي الناجح لقاعدة “الشعيرات العسكرية الجوية” بعد اتهامات للقوات السورية بقصف مدينة خان شيخون بأسلحة كيماوية.
وإذا كانت بريطانيا قد سبقت الجميع على لسان وزير خارجيتها بوريس جونسون بتهديد سوريا بضربات عسكرية في حال ثبوت استخدام الجيش السوري أسلحة كيماوية (27/2/2018)، فإن فرنسا دفعت بنفسها هي الأخرى بقوة في غمار التصعيد ضد سوريا. ففي الوقت الذي حذرت فيه وزارة الخارجية الفرنسية الصحفيين من السفر إلى سوريا، في ظل تصاعد العنف، أكد رئيس الأركان الفرنسية الجنرال فرانسوا لوكانتر (16/3/2018) أن فرنسا “قادرة على أن تضرب، بشكل منفرد، في سوريا إذا تم تجاوز الخط الأحمر الذي حدده الرئيس إيمانويل ماكرون، أي الاستخدام المؤكد للأسلحة الكيماوية”، وقال لإذاعة “أوروبا- 1” أن “ماكرون ما كان ليحدد خطاً أحمر، أو يدلي بهذا التصريح لو لم يكن يعرف أن لدنيا الوسائل للتنفيذ”.
في المقابل أعلن رئيس غرفة العمليات في هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية سيرجي رودسكوي خلال مؤتمر صحفي نظمته وزارة الدفاع يوم السبت الماضي (17/3/2018) أن “ثمة إشارات إلى أن واشنطن تحضر لضربات محتملة بصواريخ مجنحة انطلاقاً من أساطيلها البحرية وتحديداً من شرق المتوسط والخليج والبحر الأحمر”، كما اتهم واشنطن بتدريب مسلحين في معسكر قرب مدينة “التنف” الواقعة على الحدود السورية- العراقية- الأردنية لتنفيذ عمليات بأسلحة كيماوية وإلصاقها بالحكومة السورية، لخلق ذريعة للضربات الأمريكية”، مشيراً إلى أن هؤلاء المسلحين حصلوا على مواد كيماوية لتصنيع السلاح الكيماوي تحت غطاء المساعدات الإنسانية جنوب سوريا، ومؤكداً أن “20 حاوية من غاز الكلور سلمت إلى المناطق السكنية في شمال غربي إدلب حيث يعد إرهابيو جبهة النصرة لهجوم هناك”.
قبل ذلك بحوالي أسبوعين كانت موسكو قد اتهمت واشنطن باستخدام منطقة “التنف” التي تسيطر عليها قوات “سوريا الديمقراطية” الكردية الموالية لواشنطن كـ “غطاء للجماعات الإرهابية”، على نحو ما جاء على لسان إلكسندر قومين نائب وزير الدفاع الروسي (3/3/2018) الذي اتهم الولايات المتحدة بتحويل “التنف” إلى “محمية للإرهابيين هناك” وأن المسلحين “يحصلون على الأسلحة في تلك المنطقة، ويخططون لهجمات ينطلقون لتنفيذها من هذه المحمية”، مشيراً إلى أن “كل ذلك يجري تحت إشراف قوات خاصة وتشكيلات عسكرية أمريكية”. أما الكسندر بيندكتوف مساعد سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي فقد كشف (1/3/2018) أن “نحو 20 قاعدة عسكرية أمريكية موجودة في المناطق الخاضعة لسيطرة “وحدات حماية الشعب الكردية في شمال البلاد وشرقها”، واستنكر ما وصفه بـ “احتلال الولايات المتحدة منطقة تبلغ مساحتها 55 كيلو متراً من دون اتفاق مع دمشق في التنف”.
يحدث هذا في ظل تصعيد تركي متعمد ضد الحليف الأمريكي على الرغم من الاتفاق، أو على الأقل التفاهم، الذي كان قد توصل إليه وزير الخارجية الأمريكي المقال ريكس تيلرسون في زيارته الأخيرة لأنقرة مع نظيره التركي مولود جاويش أوغلو الذي أعاد التذكير بهذا الاتفاق الثلاثاء الماضي (13/3/2018) بأن “بلاده والولايات المتحدة ستشرفان على انسحاب مقاتلي (وحدات حماية الشعب الكردية) من مدينة منبج”، ويبدو أن التصعيد التركي جاء عقب تنصل “قوات سوريا الديمقراطية” و”وحدات حماية الشعب” الكردية من هذا الاتفاق، وإعلان أنها “ليست على علم به” على نحو ما جاء على لسان ريدور خليل مسئول العلاقات الخارجية في “قوات سوريا الديمقراطية”. التصعيد التركي ضد الولايات المتحدة جاء على لسان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي أدان خطط الولايات المتحدة التي تطمح إلى تشكيل قوة كردية مسلحة، مشيراً إلى أن “الدولة التي كنا نعتبرها حليفاً لنا، تصر على إقامة جيش إرهابي على حدودنا”. أردوغان قال ذلك في الوقت الذي نجحت فيه قواته الغازية في عملية “غصن الزيتون”، في اقتحام مدينة “عفرين” بالتعاون مع “الجيش السوري الحر” الموالي لها، وتسعى للتمدد من غرب الفرات إلى شرق الفرات حيث تتمركز القوات الأمريكية، الأمر الذي قد يؤدي إلى صدامات أمريكية- تركية مازال الطرفان حريصين على تجنبها. ويحدث هذا أيضاً في ظل استعدادات “إسرائيلية” ضد إيران في سوريا ليس فقط بدافع الإصرار الإسرائيلي على منع إيران من فرض نفوذ ووجود عسكري على الأراضي السورية، بل أيضاً بدافع هروب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو من احتمال تعرضه للمحاكمة في قضايا الفساد الكثيرة المتورط فيها. نتنياهو المحاصر داخلياً الآن أمامه إغراء لشن حرب استباقية مزدوجة الأهداف ضد إيران في سوريا، ولا يمنعه عن ذلك سوى ضوء أخضر أمريكي يوفر له “الغطاء السياسي” المطلوب.
الكل بات على حافة الهاوية