تعيش مصرنا الغالية الآن أجواء إعادة البناء الحضارى فى كل مجالات الحياة، فمن إعادة بناء مؤسسات الدولة وتوسيع واصلاح البنية التحتية من طرق جيدة واتصالات ناجزة وخدمات متكاملة إلى إعادة بناء التشريعات الاقتصادية لإيجاد بيئة اقتصادية مواتية للاستثمارات العالمية والإقليمية تمهيدا لتحقيق طفرة فى الإنتاج والتصدير وللحد من البطالة، ومن هذا وذاك إلى إعادة بناء نظام تعليمى يوازن بين الجودة والإتاحة، فضلا عن مراعاة ما يتطلبه سوق العمل، وكذا بناء نظام جديد للتأمين الصحى يؤمن لكل أهل مصر الفقير منهم والغنى الثقة فى تلقى العلاج الناجع من أى مرض فى مستشفيات متكاملة وبخدمة صحية جيدة.
وفى ظل كل ذلك وغيره نجد أن إعلاميينا وأجهزتنا الاعلامية فى واد آخر، حيث إنه على الرغم من كثرة القنوات الفضائية التى انتشرت منذ ثورة 25 يناير كانتشار النار فى الهشيم، نجدها جميعا تتنافس فى تقديم الغث والتافه من البرامج، فمن قنوات تعتمد فى تقديم برامجها على مجموعة من الفنانين الذين لايعلمون عن الرسالة الإعلامية وفنون الإعلام شيئا، إلى قنوات تقدم كل فنون السحر والشعوذة وتغلب الخزعبلات الفكرية ناسبة إياها إلى الدين والدين منها ومن شيوخها ومذيعيها برئ برئ، إلى قنوات عديدة قصرت برامجها على تقديم الأفلام والمسلسلات الأجنبية المليئة بالعنف والداعية إلى كل ماهو مرذول وبعيد عن قيمنا الاسلامية والعربية الأصيلة، وأخرى اقتصرت على تقديم الأفلام العربية القديم منها والحديث وتبارت معظم هذه القنوات فى بث تلك الأفلام الهابطة بدلا من أن تعرض أفلاما جادة جيدة تواكب الأحداث وتنشر فضائل العمل الجاد والإصلاح الاجتماعى والأخلاقى، ومع هذه وتلك نجد عشرات القنوات الرياضية التى اكتفت بعرض مباريات قديمة محلية كانت أو دولية دون السعى إلى نقل الأحداث الرياضية المحلية والدولية مباشرة إلى متابعيها، والغريب أنها اكتفت فى مثل هذه الأحداث الرياضية ببرامج حوارية يرغى فيها المحللون حول أحداث ومباريات لاتنقلها هذه القناة أو تلك! وفوق كل ذلك نجد انتشارا لافتا لقنوات الطهو على الهواء التى يتحدث فيها الطهاة عن أكلات غريبة لايعرف عن محتواها ومكوناتها الناس فى بلادنا شيئا وكأنه لاينقصنا فى أيام هذا الغلاء الذى يعانى منه الناس ولايستطيعون معه شيئا إلا أن نقلب هذه القنوات و«نأكل على الريحة»!
لقد كنا فى زمن مضى وهو ليس ببعيد لانملك إلا قناتين الأولى والثانية، وكانتا تملآن الدنيا ثقافة وعلما وحوارات راقية وفنا هادفا وتنقل الأحداث المهمة فنية كانت أو رياضية على الهواء مباشرة مصحوبة بأصوات مذيعين متخصصين ومحللين متمكنين قبل أن تهل علينا هوجة الإعلانات وأباطرة القنوات الخاصة الموجهة فى المقام الأول للدعاية لأصحابها ومشاريعهم وتجارتهم غير الحلال!
أين نحن الآن من الإعلام المرئى الجاد والمحترم والهادف بعد أن أصبح لدينا مدينة للإنتاج الإعلامى وعشرات القنوات التليفزيونية ؟! أين كل هذه القنوات من الزراعة والصناعة والعلم والأدب والفن الراقى فى بلدنا؟! أين تلك القنوات التى ينبغى أن تبنى قدوة لأبنائنا فى مجالات الحياة الجادة؟! أين هذه القنوات من كل مايحدث فى مزارعنا ومصانعنا من إنجازات؟! أين ذلك المذيع المتخصص القادر على أن يحاور العلماء فى معاملهم وينقل للناس اكتشافاتهم وأبحاثهم؟! أين ذلك المذيع المتخصص الذى يحاور المفكرين والأدباء فى صوامعهم الفكرية ليعرف الأجيال الجديدة بهم وبإبداعاتهم ليغرس فيهم حب الفكر والأدب وحب البحث العلمى والشغف به؟! أين تلك البرامج التى تعرض لأحدث الإصدارات لمفكرينا وعلمائنا فى كل العلوم؟! إن هذه النوعية من البرامج لاتوجد على شاشاتنا إلا فى المناسبات؛ فعرض بعض الكتب الأدبية والفكرية لايكون إلا بمناسبة عقد معرض الكتاب، وتسليط الضوء على كتاب أو كشف علمى لايكون إلا بمناسبة حصول هذا العالم أو ذاك على جائزة محلية أو إشادة دولية من أى جهة كانت؟!
إن مصر التى تريد تصويب وإعادة بنائها الحضارى من جديد تريد قنوات إعلامية متخصصة فى الزراعة والصناعة والفكر والعلم والأدب تعتمد على إعلاميين متخصصين فى كل هذه المجالات ليكونوا قادرين على الحوار مع المتخصصين للتوعية وكشف الحقائق، أملا فى صنع القدوة الجيدة للشباب الذى يتطلع ليكون مثل أحد هؤلاء العلماء أو المفكرين المبدعين الذين يقع عليهم عبء تغيير صورة مصر لتكون مصر المتقدمة صناعيا وزراعيا وفكريا وسياسيا واجتماعيا بل وأخلاقيا ودينيا. إن مصر المتحضرة تريد إعلاما يصنع نهضتها فى كل مجالات الحياة ولايصنع هذه النهضة ولايقودها إلا العلماء والمفكرون من جهة، والزراع والصناع من جهة أخرى، أما الفن وصناعه فينبغى أن يكونوا مرآة تعكس ذلك وتدعو إليه بكل قوة.