استوقفتني هذه الرسالة.. استغرقتني بما تحمله من شجون مؤلمة.. أثارت في نفسي كإنسان عربي كثيرًا من الكوامن القاسية.. إذ إن القضية التي تسردها الواقعة يمكن أن يقاس عليها الكثير من الظواهر التي تعيق تبديل صورتنا.. مثل تكدس الأسلحة في المخازن العربية ذات المليارات، والتي تبقى حتى تصدأ.. والتي نوجهها لأنفسنا ونقتل بعضنا بعضًا.. بلا رحمة ولا شفقة.. فنحن سوق رائجة لمصانع السلاح من قبل الدول التي لا تزال ذات نزعة استعمارية بغيضة.. ويقاس عليها أيضًا سلوكياتنا في السياسة والاقتصاد والثقافة والمجتمع.. والسلوك ثقافة ينبغي أن تكون متحضرة وحضارية.. ودون ذلك من عشرات الأمور والمسائل والإشكاليات تتسم بالتماثل…
لن تتغير صورتنا العربية المعهودة بأطرها التقليدية في منظور العالم المعاصر بما له وما عليه إلا بأيدينا.. وبأنفسنا ومن أنفسنا.. إذ لابد من تغيير أوتار القيثارة ليتغير النغم… العالم يتغير ونحن واقفون فوق الأطلال على طريقة (قفا نبك من حبيب ومنزل)…
فأما الرسالة فقد بعثها صديق يعيش في الخارج.. يسردها أبطالها من ثلة من الشباب العربي ذهبوا إلى (ألمانيا) وفي ذهنيتهم الصورة المترفة التي يتوقع الكثيرون رؤية الناس هناك، وهي أنهم يعيشون في رغد وحياة فاخرة.. عندما وصلوا إلى هامبورغ.. رتب صاحبهم في هامبورج جلسة ترحيب لهم في أحد المطاعم.. وعندما دخلوا المطعم لاحظوا أن كثيرًا من الطاولات كانت فارغة، وكان هناك طاولة صغيرة تواجد عليها زوجان شابان لم يكن أمامهما سوى اثنين من الأطباق وعلبتين من المشروبات.. يسرد المشهد فيقول: كنت أتساءل إذا كانت هذه الوجبة البسيطة يمكن أن تكون رومانسية.. وماذا ستقول الفتاة عن بخل هذا الزوج.. وكان هناك عدد قليل من السيدات كبيرات السن يجلسن جانبًا..
طلب زميلنا الطعام وكنا جياعًا فطلب المزيد.. وبما أن المطعم كان هادئا وصل الطعام سريعًا.. لم نقض الكثير من الوقت في تناول الطعام.. وعندما قمنا بمغادرة المكان كان هناك نحو ثلث الطعام متبقيًا في الأطباق.. ولم نكد نصل إلى باب المطعم إلا وصوت ينادينا.. لاحظنا السيدات كبيرات السن يتحدثن عنا إلى مالك المطعم.. وعندما تحدثن إلينا فهمنا أنهن يشعرن بالاستياء لإضاعة الكثير من الطعام المتبقي.. أجابهن زميلي: «لقد دفعنا ثمن الطعام الذي طلبناه فلماذا تتدخلن فيما لا يعنينكن..؟؟ إحدى السيدات نظرت إلينا بغضب شديد واتجهت نحو الهاتف واستدعت أحدهم..
بعد فترة من الزمن وصل رجل في زي رسمي قدم نفسه على أنه ضابط من مؤسسة التأمينات الاجتماعية وحرر لنا مخالفة بقيمة (50 ماركًا) التزمنا جميعًا الصمت.. وأخرج زميلي الـخمسين ماركًا قدمها مع الاعتذار إلى الموظف.
قال الضابط بلهجة حازمة: «اطلبوا كمية الطعام التي يمكنكم استهلاكها.. المال لك لكن الموارد للجميع.. وهناك العديد من الآخرين في العالم يواجهون نقص الموارد.. ليس لديكم سبب لهدر الموارد».
يقول سارد الرسالة: احمرت وجوهنا خجلا.. ولكننا في النهاية اتفقنا معه.. نحن فعلا بحاجة إلى التفكير في هذا الموضوع لتغيير عاداتنا السيئة.. انتهت هذه الكتلة السردية المدهشة بعبارة (قام زميلي بتصوير تذكرة المخالفة وأعطى نسخة لكل واحد منا كهدية تذكارية!!)..
ترى هل هناك هدية تذكارية يحتفظ بها أبناء الأجيال الجديدة ليضعوها في خزانة الأيام؟
أم أن ثمة بادرة لتغيير أنماط السلوكيات الخاطئة والمربكة والمرتبكة؟
يستدعي هذا المشهد من الذاكرة الحية اسم المفكر والشاعر البحريني الراحل (عبدالرحمن الرفيع).. وكنت أعرفه جيدًا مفكرًا وشاعرًا وإنسانًا ثائرًا على التقاليد البالية – بحكم معيشتي في منطقة الخليج أكثر من ربع القرن – وقد لخص الرجل المبدع القضية في بيت من الشعر ضمن قصيدة متوحشة تدعو إلى التغيير والتحذير والتنوير:
(ما دمت نفطيًا فعزك لا يدوم……..)
كانت صرخة قوية لا تزال أصداؤها، وأقول صرخة لأنها صادرة عن نفس حية، تحتاجها اللحظة الراهنة المتعينة بتاريخيتها واجتماعيتها، لا سيما في منطقة الخليج الهادرة بالغليان السياسي والمجتمعي.. وهي في أشد الاحتياج إلى التغيير الحقيقي لإثبات الذات الجديدة.. أو التي يفترض أن تكون جديدة، خاصة أن الأجيال الجديدة التي تتحرك على الساحة تحتاج هذه النظرة وتحتاج تبديل المنظور…
وما ينسحب عليهم ينسحب أيضًا على الأجيال العربية وعلينا أجمعين..
لعلنا يومًا نفيق… حتى لا نظل عارضي أزياء لا نحن ناسجوها ولا بائعوها، وحتى يمكننا أن نمارس فكرًا على فكر.. وليس فكرًا على مشكلات.. فهم يصبون الطاقة العقلية على الأشياء ونحن نصب طاقتنا على الأقوال… إنهم يبدأون بالمشكلة يبحثون لها عن فكرة، نحن نبدأ بالفكرة نبحث لها عن مشكلة، كما كان ينذر ويحذر أستاذنا الفيلسوف د. زكي نجيب محمود، رحمه الله.
وتبقى كلمة المسئول الألماني محملة بألف معنى ومعنى: (المال لك لكن الموارد للجميع)!!
فهل من مدكر؟! ربما….!!!