لولا ( الصيام ) ، لكان مفهوم ( الألوهية ) ناقصاً ، لكن مفهوم الألوهية تام لله فعلا ( في ذاته ) ، فعليك أيها الصائم أن تتمه وتحققه له ( في ذاتك ) ، فكيف يكون ذلك ؟!
قبل بيان هذا الكلام المجمل لدينا ، المبهم لديك نقول : إذا كان وجود كلمة ( فلسفة ) في العنوان لا يريحك ، فضع مكانها كلمة ( حكمة ) وأرح نفسك . فما الفلسفة إلا محبة حكمة أحببت أن تعلنها للناس فأعلنتها ، فصار حبك لها وإعلانها لا ينفصل عنها ، فأجملت الحكمة ومحبتها في كلمة فلسفة
وأما تعبير ( فإنه لي ) فهو عائد على الصيام عندما يتعبد به العبد بحق لله ، كما ورد في الحديث النبوي الذي يروي فيه نبينا عن ربنا أنه قال ( كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ) . وإذا كان تعبير ( تمام الألوهية ) في العنوان يحتاج إلى توضيح فيمكن القول إن مفهوم الألوهية بإيجاز هو كل ما أثبته الله لذاته من أسماء وصفات وأفعال على الوجه الذي أثبته سبحانه لذاته مع إقرار مباينته لغيره ، حتى وإن أثبت بعض مثل ذلك لغيره ، فهو متفرد بما أثبته لذاته بالألوهية ، وهو في ذلك ( ليس كمثله شيء ) . وهذا المفهوم متحقق تام لله فعلا ( في ذاته ) ، سواء أعترف المخلوق له بذلك المفهوم أم أنكره . ولا يكون العبد عبدا لله بحقٍ حتى يحقق في نفسه تمام المعرفة والعمل بمفهوم الألوهية لله . ولا يكون ذلك التمام متحققا لدى العبد حتى يحقق في ذاته كيفية صيامه لله . وتكون معرفة ذلك يقينا عن إيمان تام . بل يجب أن يستشعر العبد في ذاته الإيمانية أنه صار المُخاطب من قِبل الله بالقول : أيها العبد المسلم الصائم ، إنك جعلت صيامك لي حقا ، فأنا المعبود وحدي بهذا الصيام ولم يتأله به غيري ، وتم مفهوم ألوهيتي لديك ، وسأجزيك به خير الجزاء ، فلا يجازي عن ذلك غيري
وكأن في الخطاب السابق مفهومين ، أوجد بينهما الصيام الحق حوارا إلهيا حقا ، عن معرفة وفعل حق . ففي حقيقة الوجود والفعل هناك مفهومان وعملان . أما المفهومان فهما : مفهوم الألوهية ومفهوم العبودية . والفعلان هما : فعل الله وفعل العبد . ولا يكون مفهوم الألوهية ( ظاهرا ) لإلهٍ حتى يخلق هذا الإله عبدا ، ويعرفه ماهية ألوهية ذاته ، فيعبده العبد بكل ما افترضه عليه ، وبخاصة بما اختص به ذاته دون غيره وهو الصيام . ولا يكون مفهوم العبودية متحققا لعبد حتى يفعل هذا العبد ما يفعله لله ، ويترك ما يتركه لله . وفعل الله مطلق لا يقيده قيد ولا يحده حد . وفعل العبد من جهة الألوهية مقيد بقيود أوامر الله ، ومحدود بحدود نواهيه . وأما فعل العبد من جهة العبودية فهو إما فعل إتيان أو فعل ترك . وفعل الإتيان لا إشكال فيه فهو ظاهر الحركة والأركان . لكن الإشكال يكون دائما في فعل الترك ؛ لأنه سلبي سكوني ، وهو الذي عليه مدار الصيام : نية واستمرارا ، مبتدأً وانتهاءً
فالصيام في حقيقته هو ترك العبد ( مؤقتا ) لله ما به جوهرية حياته بإرادته وفعله ، إثباتا وتحقيقا لألوهية الله في ذاته . وجوهرية حياة العبد : زاده – طعامه وشرابه – الذي يقيم به استمرار صلبه في ذاته ، ونكاحه الذي يقيم به استمرار مثاله في ذريته . ولابد أن يكون ذلك الترك ( مؤقتا ) في مدة الصيام اليومي كما هو معروف لدى كل المسلمين من أذان الفجر حتى أذان المغرب ؛ لأن هذا الترك هو الذي يمكن أن تتحمله عبودية العبد الجسدية ، وإلا لو كان ذلك الترك ( دائما ) لقضى على العبد صلبا واستمرارا . وكأن العبد الصائم في مدة هذا الترك يسعى للتشبه بالله ، أو يحاول التخلق بأخلاق الله ، من حيث أن الله لا يُطعَم ، ولم يلد ولم يولد . لكن العبد لا يسعى في ذلك إلى مقام الألوهية أو حتى للتشبه بهذا المقام ؛ لأن مقام الألوهية اجتمعت له ما لا يستطيع العبد أن يجمعه لذاته
وللصيام ( خصيصة إلهية ) في فرضه والإعلان عنه ، فهو الفريضة الوحيدة التي قال الله عنها إنها كُتبت ( علينا ) كما كُتبت على الذين من ( قبلنا ) . وهي بذلك فريضة مساوقة في الوجود لمفهوم العبودية بحق الذي لا يتحقق بحق حتى يصوم العبد لله ، ولا يضع في اعتباره غيره ، ويحتسب أجره وينتظر جزاءه من الله لا من غيره ، باعتبار أن الله هو المنوط بذلك وحده . وإن العبد حين يفعل ذلك بحق ، يتحقق لديه تمام معرفة الألوهية لله في ذاته
وقد يحلو لنا أن نسأل : هل يجب انشغال الصائم أكثر بكيف ( يتحقق ) لديه ( فعل ) الصيام بالترك لله ، أم يكون الانشغال بكيف ( يفهم ) الصائم قول الله عن الصيام ( فإنه لي ) ؟! لا شك أن الانشغال بأحد الأمرين لا يمنع من الانشغال بالآخر ، فليسا على طرفي تضاد ، بل يمكن أن يتكاملا . لكن المهم هنا هو معرفة طبيعة هذين الجانبين لدى العبد ( أثناء الصيام ) : فالجانب الأول : وهو ( تحقق ) الترك لله بالصيام ، فهو جانب ( عملي تفعيلي ) من حيث تحقق شدة ( المراقبة لله ) بإتمام الترك لما أمر الله بتركه في نهار رمضان سواء كان تركا خاصا بأمور البدن أو أمور الروح ، فيحصل ( الترقي ) في مدارج الترك بالصوم : من الترك في صوم ( العموم ) وهو ترك الطعام والشراب والنكاح ، إلى الترك في صوم ( الخصوص ) وهو ترك الموبقات من الغيبة والنميمة والكذب وغيرها ، إلى الترك في صوم ( خصوص الخصوص ) وهو ترك ذكر غير الله سبحانه وتعالى
أما الجانب الثاني : وهو ( فهم ) الصائم لمعنى قوله تعالى ( فإنه لي ) ، فهو جانب ( تنظيري عقدي ) وهو أخذ – وليس تركا – بأرقى المعاني في ذلك : فالله وحده المختص بمفهوم الألوهية التام ، وهو وحده المتعبد بالصيام من العباد جميعهم منذ بدء الخليقة إلى الآن وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . ولم يحدث في تاريخ الإنسانية أن صام أحد لأحد تعبدا ، ولم يدّعِ أحد أن أحدا تعبّد له بالصيام ، رغم وجود كثير من الصور المتنوعة لعبادة العباد للعباد وعبادة الطبيعة أو المخلوقات أوالجمادات
وأخيرا ، ليس هناك أفضل في ناموس الفعل من مجازاة الله للعبد الذي أحسن في أداء عمل له ( خصوصية السرية ) في العبادة . وبه تم مفهوم الألوهية لله في نفس العبد الصائم ؛ ولذلك ( لا تجد صائما مشركا أبدا ) . نعم قد يقع الصائم في بعض ( الخطأ ) الصغير ، لكنه لا يقع في ( خطيئة ) الشرك وهو صائم ؛ لأنه يعلم تماما أن صيامه لله تعبدا خالص ، من منطلق سعي عبوديته – التي تحققت فيها معرفة حق ألوهية الله – إلى احتساب فعل الصيام وتحصيل الجزاء من صاحب الجزاء سبحانه . إن عبودية هذا العبد وقد حققت فعل الصيام في ذاتها ، تعرف أن صيامها لله خالص ، وأن مجازاة الله لها عليه تامة ، من حيث تمام الألوهية . ومَنْ أكرم على العباد في صيام رمضان من إلهٍ تمت ألوهيته في ذاته بذاته ، وأتم العبد فهمها في نفسه بصيامه لله ؟! نعم إنه الله تام الألوهية ، الذي قال عن الصيام : إنه لي وأنا أجزي به