والعين ليس معها أين في نور المسحة الإيمانية التي تتغشى الجوارح..
ويهيم الفكر في هذا الفضاء الوجداني ويشتاق أن يدعو: اللهم زدني فيك تحييرا…
وتنساب الخواطر وتترى بعيدًا عن ثرثرة الحياة اليومية المستهلكة… أملًا وطمعًا في ومضة فتح من الفتاح العليم و}مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ{ [سورة فاطر – 2].
إذ يتجلى الله بالفتح على من يختصهم من عباده، ويشاء لهم أن يكتشفوا بعض ما ينفتح من أسرار الكون، وكان أنبياء الله تعالى هم رموز الفتح الذين تمت على أيديهم التحولات الكبرى في تاريخ الإنسانية ابتداء من نوح عليه السلام وانتهاء بمحمد صلى الله عليه وملائكته، والذي بنبوته ورسالته دخل العقل البشري مرحلة الرشد، ولم يعد الإنسان في حاجة إلى نبوات إلهية أخرى، أو رسالات سماوية جديدة، بل صار عليه أن يسير في الأرض فينظر كيف بدأ الخلق، ويرجع البصر في الكون ليدرك أن الله سبحانه ما خلق هذا باطلا، وينتقل تدريجيًا من عالم الغيب إلى عالم الشهادة باكتساب العلوم والمعارف، وكلما زاد علمه ازداد قربًا من الله، وكلما زاد جهله بعُـد عن الله.
وإذا كانت الإنسانية تتجه (أفواجًا) إلى الله تعالى في شتى أنحاء المعمورة.. بالعلم، وإذا كان الإنسان ينهض بأمانة الاستخلاف في الارض.. بالمعرفة، فإن بالإيمان تكتمل المعادلة، لتتفاعل أطرافها؛ وبالتالي ينسجم الإنسان مع الوجود، ومع غيره من الخلائق في منظومة التسبيح لله الذي وسع كل شيء علمًا ورحمة.
وهذا سبيل عصرنا الذي يتطور بشكل غير مسبوق، وتتكشف الحجب عن بصيرته لتعلو ذبذباته ايمانًا، وترتفع اهتزازاته يقينًا برب الكون الذي هو في السماء إله وفي الأرض إله، فالدين والعلم متلازمان، لا يستغني أحدهما عن الآخر، ولا تستوى الحياة إلا بهما، ولا تستقيم الأمور إلا بالتناسق بينهما معًا، ولاقيمة لخلافة الإنسان في الأرض، ولا معنى لوجوده بدونهما، بل إن توازنه يختل إذا افتقر إلى أحدهما.
وعلى مر التاريخ لم يحدث أن دخل العلم والدين في حالة خصومة أو تضاد، وإن حدث شىء من ذلك فليس مصدره الايمان، ولا سببه العلم، إنما الانسان ذاته.
وهذا ما تشير إليه شواهد التاريخ التي تؤكد أن عطاءات العلم عندما تتداخل مع تجليات الإيمان، تحدث قفزات التطور، وتتم التحولات، وتتجه الإنسانية إلى التقدم، ويتعمق النظر في الكون، فتتكشف أسراره على قدر احتياجات الإنسانية، وبما يتلاءم مع قدرات العقل البشري، ويتناغم مع مقدرة الإنسان على استيعاب ما يتأذن به رب العالمين الذي له الخلق والأمر، والذي يدعونا في القرآن الكريم إلى العلم بكافة أنواعه، والسعي إليه بكل الوسائل.. بل إن من بين آياته الكريمة، توجد حوالي 750 آية كونية وعلمية، وثمة 160 إشارة في التنزيل الحكيم إلى كلمة العلم..
ولعلنا في هذا السياق نلاحظ أن الحق تبارك وتعالى يصف ذاته العلية بالكرم والإكرام حين يتفضل بهبة العلم على الانسان }اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ{ [سورة القلم 1- 6 ].