عندما بلغ التناقض أشده ، واستنفذ الجدل قصارى مراحله ، بين يهوذية تلمودية وثنية ، تعبد المال وتؤلهه ، ومسيحية روحانية مناقبية ، تشد أبصار البشر وقلوبهم إلى عالم من المثل الروحانية الخالدة ، وحياة من الخير والسلام والمحبة باقية.
جاء موعد الاسلام ليولد في الجزيرة العربية على يد سيد الخلق محمد رسول الله وخاتم المرسلين ، فكان نداء الفطرة في ساعة العسرة ، وواسطة العقد ، وخاتمة الرسالات السماوية ، فقد جمع في توازن علوي بين ضغط المادة وأشواق الروح ، وبين نزعة الفردية ، ونزعة الجماعية ، وبين شؤون الدنيا الفانية ، ومباهج الآخرة الباقية! وعمل توسيط المجتمع بإزالة التناقض والتطرف: ” وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً”!. (البقرة 143 )
وعلى ذلك يكون وسط الشيء خياره ، لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل ، والأوسط محمية محوطة ، وهو ما يوضح أن الاسلام قد جاء ليخرج الناس من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والاخرة. ومن الواضح ايضاً أن الدين الاسلامي قد جاء برسالة انسانية عالمية ، للأرض ومن عليها في قوله ” قل يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً” ، وكذلك في قوله: “إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون”(الأنبياء 92)
ويولد عن ذلك عقيدة شمولية اندماجية: إذ أن الاسلام هو المنهج الوحيد الذي يقوم نظام البشرية فيه على أساس من التفسير الشامل للوجود ، ولمكان الانسان في هذا الوجود ، ولغاية الوجود الانساني. فالإسلام دين يعرف طريقه إلى النفس البشرية منذ اللمسة الأولى ، يعرف دروبها ومنحنياتها ، فيتدسس إليها بلطف ، ويعرف مخارجها ، فيسلك إليها على استقامته ، ويعرف طاقاتها الأصلية البانية فيطلقها للعمل والبناء.
ثم إنه لا معنى لأن يوجد دين دون أن يشمل الدنيا والأخرة لذى فقد وازى الاسلام بين الدنيا واشواق الأخرة ، بصورة لم يسبقه غليها سابق ، فقد أحل متاع الدنيا وطيباتها: “قل من حرَّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق” (الأعراف 32)
هذا إلى جانب الاهتمام بالقيم المادية الاقتصادية ، أوجد معايير للقيم الأسمى ، والمثل العليا. فجاء جميعاً بمعياري العلم والتقوى أساساً للتفضيل: “إن أكرمكم عند الله اتقاكم” الحجرات 13
“يرفع الله الذين أمنوا والذين أوتوا العلم درجات” (المجادلة 11)
وشاء الله أن يتمم تحقيق منهجه الالهي للحياة البشرية عن طريق الجهد البشري ، وفي حدود الطاقة البشرية المتاحة لكل انسان ، إذ “إنَّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”.(الرعد11)
وأخيراً ، فإن ما يعنينا ، هو الوصول إلى معرفة ما إذا كان الاسلام قد أرسى دعائم نظرية اقتصادية ، وعقيدة اجتماعية كاملة ، قائم على أساس “العدالة الاجتماعية” كما سبق أن تصورنا لمعنى “العدالة الاجتماعية” ، هذا ما سوف نفرد له مقالاً أخر.