يبدو أن مخطط تزييف الوعي أو “كي الوعي” الذي تمارسه أجهزة الدعاية والإعلام الصهيونية لفرض ما يعتبرونه “رواية إسرائيلية” أو “رواية توراتية” عن جوهر الصراع الدائر على أرض فلسطين منذ تأسيس الكيان عام 1948 لم يعد يقتصر على الشعب الفلسطيني وحده، الذي يجاهدون، مدعومين بآلة الدعاية الصهيونية والأمريكية الهائلة، “لطمس هويته الوطنية ومحو ذاكرة الوطن داخله، كما أنه لم يعد يقتصر أيضاً على المواطنين العرب، بل والعالم كله، لفرض صورة “إسرائيل دولة ديمقراطية وسط تخلف عربي استبدادي”. ولكنه طال المواطن �”الإسرائيلي” نفسه، في ضغوط لاهثة هدفها طمس الحقيقة، أي حقيقة كيانهم الغاصب، وأنهم ليسوا شعباً، بل شذرات مختلفة من شعوب عدة لم يجمعهم غير مشروع استعماري على أرض نهبوها من شعبها الفلسطيني، وفرض أساطير وحقائق بديلة معظمها مختلقة أو مفتعلة عن “أرض الميعاد” و”وعود الرب” و”شعب الله المختار”، لصالح فرض حقائق أخرى بديلة يجاهدون من أجل غرسها في ذاكرة المواطن “الإسرائيلي” ويصرخون بأعلى أصواتهم لفرض معالمها الجديدة التي تقول أن بلدهم “دولة يهودية وقوة عظمى” وأنها “ديمقراطية متنورة ومزدهرة” لكنها “توجد تحت هجمة كراهية لا سامية”، على نحو ما كتب حاييم شاين في صحيفة “إسرائيل اليوم” التابعة لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو.
هذه الصحيفة وغيرها من الإعلام التابع لرئيس الحكومة تعيش هذه الأيام ما يمكن وصفه بـ “حالة جنونية” لسبب أساسي هو أن الأسطورة تتداعي على مستوى العالم كله، على عكس ما يزيفون من معلومات كاذبة عن صورة “إسرائيل الوردية”، ولكن في أوساط “الشعب الإسرائيلي” جاءت الضربة هذه المرة موجعة، لأن “الإسرائيليين” العاديين، وهم الأغلبية، يعيشون مغيبين عن الواقع المأساوي لدولتهم ومكانتها التي تتداعى في العالم، أي أنهم لا يرون كيف أن هذه الدولة باتت تتحول إلى “دولة منبوذة عالمياً، وأنها لم تعد مدعومة إلا من دولة واحدة في العالم هي الولايات المتحدة، التي بدأت تتحول هي الأخرى من دولة “مارقة” خارجة عن القانون تمارس سياسة “القوة فوق القانون” لفرض شعار “أمريكا أولاً” إلى دولة منبوذة تحت قيادة رئيسها دونالد ترامب الذي غادر قمة مجموعة الدول السبع الصناعية الأخيرة في كندا بعد أن فجر أزمة هائلة في علاقات واشنطن بحلفاءها في أوروبا وأمريكا الشمالية، جعلت الصحافة الغربية تتوقف عن الحديث عن “مجموعة الدول السبع” وتستبدله بمسمى آخر بديل، لكنه مفعم بالمعاني هو “مجموعة دول الست ضد واحد”.
لا يتابع “الإسرائيليون” التصويت الذي يحدث في مجلس الأمن ضد بلدهم وهو التصويت الذي لا يعوقه غير “الفيتو” الأمريكي ليمنع صدور قرارات إدانة ضد بلدهم بسبب سياستها العدوانية ضد الشعب الفلسطيني، وضد تحويل القدس إلى عاصمة “لإسرائيل” معترف بها أمريكياً، وربما لم يتابعوا فشل جولة رئيس حكومتهم الأخيرة في أوروبا، وبالذات في برلين ولندن وباريس، وعودته خال الوفاض من الحصول على دعم أوروبي في قضيتين الأولى أن تدعم أوروبا الموقف الأمريكي من إيران وتنسحب هي الأخرى من الاتفاق النووي الموقع مع طهران، والثانية الإصرار الأوروبي على تشكيل لجنة تحقيق دولية لفحص القتل الجماعي الذي نفذته قوات الاحتلال ضد المتظاهرين السلميين الفلسطينيين خلال مسيرات العودة على السياج الحدودي مع قطاع غزة، وربما لم يتابع “الإسرائيليون” قرار فيديريكا موجيريني مسؤولة العلاقات الخارجية بالاتحاد الأوروبي إلغاء زيارة كانت مقررة للكيان للمشاركة في مؤتمر لمنظمة يهودية أمريكية بسبب تهرب رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو من اللقاء معها على خلفية صدمته من الموقف الأوروبي غير الداعم للسياسة “الإسرائيلية”، ربما لا يتابع “الإسرائيليون” كل هذه التطورات وغيرها، بل وجديدها مثل التوجه الفلسطيني إلى محكمة العدل الدولية لمحاكمة قادة سياسيين وعسكريين “إسرائيليين” بسبب الجرائم التي ارتكبوها بحق الشعب الفلسطيني، لكنهم تابعوا، رغم أنف حكومتهم وإعلامها، قرار منتخب كرة القدم الأرجنتيني إلغاء مباراة كانت مقررة مع المنتخب “الإسرائيلي” بعد أن لعبت “النشوة” برؤوس قادة الكيان وأغرتهم بنقل مكان المباراة إلى القدس.
صدم “الإسرائيليون” الذين أفزعهم اعتذار المنتخب الأرجنتيني أن يلعب في بلدهم قبل أسبوع واحد من مشاركته في كأس العالم باعتباره من المنتخبات المرشحة للفوز بالبطولة، وكانت الصدمة مضاعفة لأن نجمهم المفضل جداً “ليو ميسي” هو من تزعم هذا الموقف، الذي رفض أن يتحول هو وزملاؤه كدمى استعراضية في ساحة تغلي بالأحداث، بعد أن أدركوا أن ما سيقومون به لن يكون إلا انحيازاً ليسوا، على الأقل طرفاً فيه، وأن مضيفيهم سيوظفون استعراضهم كورقة قوة في الصراع على القدس التي يقاتلون من أجل الحصول على اعتراف دولي بها كعاصمة لدولتهم.
عمق هذه الصدمة كشفتها وزيرة الثقافة عندما عبَّرت عن الغليان المتفجر داخلها بقولها: “ميسي سيأتي ليقبل حائط المبكى”، قالت هذا بعد أن فشلت محاولات رئيس الحكومة مع الرئيس الأرجنتيني لتغيير الموقف، ولم يجدوا غير شخص جبريل الرجوب رئيس الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم ليحملوه مسؤولية نكستهم واتهامه بأنه السبب الرئيسي في إفشال مجئ الفريق الأرجنتيني ليلعب ليس فقط في الكيان بل وفي القدس، لأنه حول مباراة كرة القدم إلى “حدث سياسي” وأنه “نجح في إدخال الإرهاب إلى السياسة”.
صحافة نتنياهو مليئة بالعويل والصراخ وبكائيات “العداء للسامية” خشية أن تصل إلى مواطنيهم الحقيقة، والحقيقة هي أن العالم بدأ يعامل دولتهم بـ “ازدراء” بعد أن تحولت إلى “دولة منبوذة” عارية من أساطيرها الكاذبة التي يشاهدون عن كثب تساقط أعمدتها.