فجأة ودون سابق مقدمات، توقفتُ الأشهر الماضية عن مقالاتي التي كنت أرصد خلالها أوجاع الفقر، وأكشف عن كثبٍ آلام الفقراء.. خاصة حين طالعت بعض التقارير-المحلية والدولية- التي أشارت إلى التزايد المضطرد في أعداد الفقراء، والتآكل المتسارع في نسيج الطبقة الوسطى.
وتسألت تساءل الباحث المهموم بقضيته البحثية.. أولًا إذا كانت أعداد الفقراء قد تجاوزت الخمسين بالمائة في نهاية 2017م، حسب بعض التقارير، فكم كانت نسبة الفقراء في بداية الخمسينيات؟ خاصة أنني أعتبر أن أحداث 52 كانت الخطوة الوطنية الأولى الجادة في مواجهة الفقر، وأن ثورة الضباط الأحرار كما كانت ضد الاستعمار والاحتكار، كانت أيضا ثورة حقيقية ضد الفقر.. فللمرة الأولى في التاريخ يحكم مصر أبناؤها، وللمرة الأولى في التاريخ يصبح لدينا جيش وطني حُر، مُشَكًّل كله من أبناء الوطن، وتابع فقط لإرادة الشعب، وليس للنظام الذي يحكُمَه!
وبعد مطالعة المراجع الموثقة في تاريخنا الاجتماعي الحديث؛ تبين لي: أن معدل الفقر في مصر في الخمسينيات لم يتجاوز 27% رغم تأثر مصر بالحرب العالمية الثانية وحرب 48 وسقوط الملكية وتغيير النظام الحاكم آنذاك، وتعرض مصر بشكل مباشر للعدوان الثلاثي في 56، وأن الانخفاض في معدل الفقر استمر في الستينيات حتى وصل 26%!
ليس ذلك فحسب فقد واصل معدل الفقر انخفاضه خلال العشرين سنة الأولى من حكم مبارك، فبلغ في الثمانينيات 18 % بينما وصل في التسعينيات إلى 16 %، وهو رقم أعده انتصارًا حقيقيًا لسياسات الدولة في مواجهة الفقر!
وهنا ربما يسألني سائل.. إذا كانت الدولة في هذه الفترة قد نجحت فعلا في الحد من الفقر؛ فلماذا لم يشعر المصريون بذلك؟ والإجابة تكمن في أن هناك فارقا كبيرا بين “معدل الفقر” ومعدل “الإحساس بالفقر” فقد ينخفض معدل الفقر ليصل 10 % لكن الإحساس بالفقر قد يصل إلى 90%، وذلك لسبب بسيط هو الفقر النسبي الذي يعززه دائمًا “الفساد”!
ومع بداية الألفية الجديدة، وهيمنة “العولمة” وسياساتها المجحفة؛ فقد فشلت مصر في التعاطي معها، وعاودت معدلات الفقر في التزايد عاما بعد الآخر، حتى بلغت على التوالي في 2004م نحو 20% بينما وصلت في 2010م إلى 25%.. وفي 2015م بلغت 27.8%.. وبعد تخفيض قيمة الجنيه في نوفمبر 2016م، الذي صاحبه ارتفاع غير محسوب في الأسعار مع ثبات الدخول؛ وصل معدل الفقر حسب تقرير “مركز بصيرة ” نحو 70 %!
وهنا يطرح السؤال نفسه: ما السبب؟ وما الذي تغير في سياسات الدولة تجاه محاربة الفقر؟ علما أن الهند التي بدأت الحرب على الفقر في نفس الفترة التي بدأت فيها مصر، قد حققت نجاحا كبيرا في هذا السياق.. فبعد أن كان معدل الفقر قد بلغ الـ70% في نهاية الأربعينيات، استطاعت الهند أن تخفض معدلات الفقر حتى وصلت 22 % في بداية 2018م!
إذًا ما الذي حدث بالفعل؟! ولماذا انتصر الفقر في مصر على سياسات الدولة.. حتى أصبح معدل الفقر لا يختلف كثيرًا عن معدل الإحساس به؟! ولماذا رغم الإنجازات الواسعة التي تحققت بعد ثورة 30 يونيو، خاصة فيما يتعلق بتطوير المرافق والبنية التحتية وحل مشكلة الطاقة والمشروعات القومية العملاقة، التي تجاوز عددها 250 مشروعًا، بالإضافة إلى ارتفاع معدلات التصدير وتراجع الواردات.. لا تزال معدلات الفقر في تزايد؟!
الإجابة على هذه الأسئلة جميعها يمكن حصرها في محورين اثنين، الأول يتعلق بعدم إحساس المصريين بالإنجازات التنموية التي تحققت بعد ثورة يونيو، التي تراها “الدولة” كبيرة، وقد لا يراها السواد الأعظم من الفقراء بالأساس.. وذلك يرجع لأمرين، الأول يكمن في حجم المسافة بين طموحات وتوقعات المصريين بعد ثورة 25 يناير تحديدا وبين ما أنجزته الحكومات على أرض الواقع.
إذ يبدو أن توقعات المواطنين كانت أكبر بكثير مما تحقق من إنجازات تنموية في الواقع.. والأمر الثاني يتعلق بفلسفة الدولة.. إذ دائما ما تهتم الحكومات والأنظمة بـ”المستقبل” حتى وإن كان على حساب “الحاضر”. بعكس الشعوب التي عادة ما تهتم بحاضرها دون التفكير في المستقبل!
وهناك كثير من الأمثلة الشعبية التي تلخص فلسفة الشعوب في التعامل مع مواردها، كـ”أَكِّلنَا النهارَده وجَوَعنَّا بُكرَه” و”اصرف ما في الجَيب يأتيك ما في الغَيب” و”ماحدش بيموت م الجوع” وكذلك “عيشني النهارده وموتني بكرة” وكلها أمثلة تنصب على الحاضر دون مراعاة للمستقبل!
أما المحور الثاني فإنه يتعلق بأسباب فشل سياسات الدولة في الحد من الفقر.. ونُرجع ذلك إلى جملة من العوامل أهمها: اختلاف الحكومات المتعاقبة حول “مفهوم الفقر” الذي ينعكس على تحديد “خط الفقر” الذي يقصد به الحد الذي عنده لا يستطيع الإنسان إشباع احتياجاته الأساسية، وغالبا ما تحدد الحكومة خط الفقر في ضوء قدرتها المالية على “الالتزام” بتكملة الدخول التي تحت هذا الخط، لتصل عند هذا الحد..
ومن ثم فمن مصلحة الحكومة أن يكون خط الفقر دائما منخفضا؛ ليتناسب مع قدرتها على الدعم، وحتى لا تشعر بالفشل في إنقاذ مواطنيها من براثن الفقر!
فإذا كان مفهوم الفقر متغير؛ فإن حد الفقر يجب أن يخضع للتغيير، خاصة مع تغير القيمة الشرائية للجنيه، ومن ثم فإنه يجب تغيير خط الفقر في ضوء “القيمة السوقية” لسلة الاحتياجات الأساسية للأسرة.. ولهذا فإن القول إن الفقر قد ًزادَ أو قَلَّ؛ يمكن أن يكون ناتجًا عن التغيير في تعريف الحكومة للفقر، وليس نتيجة لتغييرات حقيقية دقيقة في الدخل!
ثانيًا أن الحكومة عندما تشرع في وضع خط للفقر؛ فإنها تأخذ على عاتقها مسئولية رفع الدخول أسفل هذا الخط، ولا تمتد مسئوليتها إلى من هُم فوق هذا الخط؛ مما يتسبب في تآكل الطبقة الوسطى وزيادة شرائح الفقراء!
ثالثًا أن سياسات الدولة منذ نهاية الثمانينيات قد اتجهت نحو محاربة “الفقر المطلق” الذي يقصد به “العجز المطلق في موارد الفرد”.. دون أدنى اهتمام بقياس الفقر بالنسبي.. رغم أن تقارير برنامج الأمم المتحدة في منتصف التسعينيات قد أرجعت الفقر في مصر إلى التفاوت في توزيع الموارد، ولم ترجعه مطلقًا إلى الافتقار المطلق للموارد!
أي إلى الفجوة غير العادلة بين موارد الفقير وموارد الآخرين!
ورابعًا فإن سياسات الدولة التي تقوم على تقديم “الدعم النقدي” هي سياسات بالأساس تستهدف أعراض الفقر دون مسبباته.. ومن ثم فإن أي محاولة لمساعدة الفقراء، دون العمل على إخراجهم مباشرة من دوائر الفقر؛ هي محاولات فاشلة!
وأخيرًا.. فإن تجاهل الحكومة للأخذ بمفهوم “الفقر النسبي” الذي يقصد به فقر الفرد بالنسبة للآخر سواء داخل الأسرة أو داخل المجتمع الواحد أو حتى بالنسبة للآخرين في بلاد أخرى.. عَمَّقَ من زيادة معدلات الإحساس بالفقر، ويرجع ذلك إلى التطور في وسائل الإعلام التي باتت تُبرِز هذه الفجوة قوة، فلا تتحرج الفضائيات عن الإعلان عن الأسعار الخيالية للشقق في الكمبوندات، وبعده تعلن عن قرى كاملة “محرومة” من الخدمات، يشرب سكانها من مياه الصرف!