طرحنا في المقال السابق مفهوم الشائعات، وخلصنا إلي أن الشائعة عبارة عن خبر غير صحيح، وإن كان له ظل من الحقيقة، وليس لها مصدر معروف، أو موثوق فيه، وينتشر هذا الخبر علي نطاق واسع بحكم جاذبيته الظاهرة، ومقدار الإثارة التي يتسبب فيها، والغموض الذي يحيط به.
ويري البعض أن الشائعات بمثابة” السوق السوداء للمعلومات”، فعندما يعجز البنك المركزي للمعلومات في الدولة عن الوفاء باحتياجات الجمهور من المعلومات الصحيحة توفيرا لحق المواطن في المعرفة، يلجأ الجمهور طواعية إلي سوق المعلومات الموازية التي قد تنعكس في الشائعات أو أحاديث النميمة، والمقصود بالبنك المركزي للمعلومات هو كافة أجهزة الدولة التي تمتلك المعلومات وتتحكم في تدفقها إلي الجمهور تحقيقا لمبدأ الشفافية، وحين تتعمد بعض أجهزة الدولة حجب المعلومات، فمن الطبيعي أن ينجرف الناس إلي استخدام وسائل بديلة لتحقيق المعرفة. والسؤال هنا، كيف تنتشر الشائعات؟، كان الأصل أن رواج الشائعات يتم عبر الاتصال الشفهي المباشر من خلال الرواية أو الثرثرة بين الناس، غير أن وسائل التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت ساعدت علي استفحال هذه الظاهرة علي نحو غير مسبوق، حيث امتد نشر الشائعات من الأفراد إلي الكيانات المنظمة والدول لبث الفتن وإثارة البلبلة وإضعاف الروح المعنوية للشعوب، وتشير سجلات الأمن العام في كثير من الدول إلي ضبط حالات عديدة من الأفراد والمنظمات الذين صاغوا كثيرا من الشائعات التي كان لها تأثير سلبي في إشاعة الرعب والذعر بين الجماهير. والسؤال التالي، لماذا تزداد الشائعات في أوقات الأزمات وعدم الاستقرار؟، والإجابة أن الناس في أوقات الأزمات والقلاقل وعدم الاستقرار ينتابهم حالة من التوتر والخوف والقلق من المستقبل، والشعور المتزايد بعدم اليقين، وتمثل هذه الحالة مناخا خصبا لانتشار الشائعات، لأنها بطبيعة تكوينها وشروط شيوعها تتوافق مع هذه الحالة والمناخ السائد من عدم اليقين. القاعدة إذن إن نجاح الشائعة يرتبط بوجود مناخ ملائم من الدوافع النفسية عند المتلقي لانتشار الشائعة وتفاقمها. ومن بين هذه الدوافع النفسية حب الاستطلاع الغريزي عند الفرد لمعرفة كل جديد، وكشف كل غموض، وهي من العادات الاجتماعية الشائعة التي تجعل الناس يميلون إلي استطلاع المعلومات والإنصات إلي المقولات والروايات التي يرددها البعض، خاصة ما يتعلق بكبار الشخصيات والمسئولين والمشاهير في كل المجالات. والدافع النفسي الثاني هو الميل الفطري إلي تصديق الشائعات، فالإنسان مهيأ في معظم الأوقات لتلقي الشائعة وتصديقها، لأنه ليس لديه الوقت الكافي لمراجعة المعلومات وبذل الجهد في تمحيصها وطرحها علي معايير الصدق. والدافع الثالث هو السعي وراء معني أو هدف، حيث يسعي البعض إلي وضع لمساته الخاصة علي موضوع الشائعة وإضفاء المزيد من البهارات والإثارة لجعلها متكاملة ومترابطة ومحبوكة الأطراف حتي يصدقها الناس، مثل اختلاق أسباب لتفسير احدث، وافتراض دوافع لتبرير وجود موضوع الشائعة، وتتنوع التفسيرات كلما اتسع نطاق الشائعة، وكلما صاحب ذلك تقاعس الجهات المسئولة عن تفنيد الشائعة بالسرعة اللازمة. أما الدافع الرابع لانتشار الشائعات فهو ” التنفيس” عن أنواع من الضغوط، أو الخوف من التعبير الصريح عن الآراء والاحتياجات، فيكون من شأن الشائعة أن تلطف أو تخفف من حدة التوتر العاطفي لكونها متنفسا يؤدي إلي التفريج. إن ناقل الشائعة قد لا يعبر عن الواقع بقدر ما يعبر عن حالة نفسية أو قلق انفعالي، وهنا تختلط الوقائع بالخيال والدلالات الموضوعية بالمثيرات العاطفية. وللحديث بقية…