يعد حق المواطن في المعرفة هو جوهر العمل الإعلامي وغايته، وهو ما يستوجب تمكين الصحفيين والإعلاميين الحصول علي المعلومات من مصادرها ونشرها دون قيود سوي ما يمس الأمن القومي بمقتضي القانون. وتؤكد جميع مواثيق الشرف الإعلامية وآليات الممارسة علي ضرورة الفصل التام بين المواد الإعلانية والمواد التحريرية، وبالتالي لا يجوز بأي حال أن تتحكم الوكالات الإعلانية في المحتوي الإعلامي والسياسات التحريرية للمؤسسة الإعلامية. وهناك شبه إجماع من جانب فئات المجتمع المختلفةوقيادات الدولة وحتي الصحفيين والإعلاميين أنفسهم بأن الإعلام المصري يشهد تراجعآ ملحوظآ علي كافة الأصعدة نتيجة تأثره الواضح بالأزمات الاقتصادية التي شهدتها البلاد في أعقاب ثورتي ٢٥ يناير و٣٠ يونيو، ونتيجة تقلبات السوق الاقتصادية مما أدي إلي ارتفاع كبير في أسعار ورق الصحف، وهو ما أثر بالسلب علي مكانة الصحف الورقية وانخفاض مقروئيتها بشكل حاد، ونتج عن ذلك خسائر في نسب التوزيع وتراجع عائد الإعلانات. كذلك شهدت القنوات الفضائية تراجعآ ملحوظآ في نسب المشاهدة نتيجة الارتجال والتخبط في نظم الملكية وعشوائية الإدارة غير المحترفة مما تسبب في الكثير من الأزمات المالية وانسحاب المعلنية، وهو ما ترتب عليه القيام بعمليات إعادة الهيكلة ومظاهر الدمج والاستحواذ، وتواكب مع هذا المشهد صعود المنصات الرقمية من المواقع الإخبارية الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي وجذبها لأعداد كبيرة ومتزايدة من المتابعين والمشاركين. ولعل من بين أهم أسباب تراجع الإعلام المصري هيمنة بعض الوكالات الإعلانية الاحتكارية علي المحتوي الصحفي والإعلامي حسبما أشارت دراسات عديدة، ومن بينها دراسة طلال صدقي الميدانية حول تأثير الضغوط الإعلانية علي الأداء الإعلامي في البرامج الحوارية بالقنوات الحكومية والخاصة، والتي كشفت عن حجم تدخل الوكالات الإعلانية في العمل التليفزيوني، حيث تتحكم بعض الوكالات في اختيار أفكار البرامج وأساليب إعدادها التي يغلب عليها الصراع والإثارة من أجل الجذب الجماهيري، وكذلك اختيار مقدمي البرامج من أهل الثقة وممن يجيدون التهييج والإثارة والصراخ المتواصل وافتقاد الحد الأدني من المهنية، وقد يصل الأمر إلي التحكم في اختيار ضيوف البرامج ممن يجيدون الصراع والصدام المتبادل سعيآ لجذب الإعلانات، وقد انحدرت بعض القنوات لدرجة بيع أوقات البث لمن يدفع أكثر بغض النظر عن قيمة المادة المذاعة. امتدت هيمنة الوكالات الإعلانية إلي الأعمال الدرامية التلفزيونية والتحكم في أفكار المسلسلات والنجوم والمخرجين مما أدي إلي تراجع الدراما المصرية علي المستويين المحلي والعربي، وبالطبع لم نعد نشاهد الأعمال التاريخية والدينية والاجتماعية الهادفة. أدي كل ذلك إلي تحويل الإعلام من خدمة تستهدف التوعية والتنوير والارتقاء بالذوق العام إلي سلعة رخيصة تباع وتشتري وبتحكم فيها من لا يعرفون ألف باء الممارسة المهنية والمسئولية الاجتماعية. والسؤال أين دور المجلس الأعلي لتنظيم الإعلام؟ ولماذا لا يمارس اختصاصاته المنصوص عليها في القانون؟، والتي من بينها ضمان الفصل الكامل بين الإعلان والإعلام، وأين دوره في منع الممارسات الاحتكارية؟ إن الناس ينتظرون تعديلات جوهرية في بيئة الإعلام وممارساته !!!