ثمانية وأربعون عامآ مرت علي احتراق دار الأوبرا المصرية، ذلك الصرح الفريد الذي ارتبط بافتتاح قناة السويس ١٨٦٩ والارتقاء بمصر من العصور الوسطي إلي العصر الحديث. وقع حريق دار الأوبرا المصرية في ٢٨ أكتوبرمن عام ١٩٧١، وكان واحدآ من الأيام السوداء التي شهدتها مصر، ولايزال السؤال مطروحآ، هل وقعت هذه الكارثة نتيجة الصدفة والإهمال؟ أم أنه حادث متعمد لتجريف قوة مصر الناعمة؟ هل كان ذلك بادرة لتحجيم قدرات مصر الإبداعية التي بلغت ذروتها في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي؟ وهل يمكن أن نؤرخ لعام ١٩٧١ باعتباره بداية التدهور والتراجع للقوة الناعمة المصرية من الفنون الراقية والمسرح والسينما والغناء والانكماش الإعلامي؟. إن قوة السينما تكمن في ثرائها التعبيري، وإعادة اكتشاف الواقع وتفسيره بشكل أو بآخر، واقع الحياة بكل أبعادها وتفاصيلها، وتقديم هذا الواقع للمتلقي بشكل مؤثر يخاطب العقل والوجدان، ويثير الرغبة في المعرفة والفهم لما حدث، وكيف حدث؟، ولماذا حدث؟. كانت فرنسا أول من عرف فن السينما عام١٨٩٥ علي يد الأخوين لوميير، وبعد عام واحد انتقل هذا الفن إلي مصر في شكل الأفلام التسجيلية القصيرة الصامتة، هذا الفن الذي تلاشي الآن أو كاد لولا بقية من المبدعين القابضين علي الجمر. عرضت إحدي فعاليات مهرجان الإسكندرية السينمائي ندوة مهمة حول الفيلم الوثائقي المتميز" حرق الأوبرا المصرية" والعنوان دال لغويآ، حيث أن كلمة "حرق" تعني التعمد،بينما كلمة" حريق" قد تعني الصدفة أو الإهمال. الفيلم من إنتاج الفنان القدير كمال عبد العزيز المخرج والمصور المتميز، والذي تناول هذا الحدث المأساوي بطريقة نقدية استقصائية. استغرق إعداد الفيلم نحو خمس سنوات من البحث والتقصي والصور النادرة الثابتة والمتحركةوطرح شهادات توثيقية حية ممن عاصروا هذا الحادث الأليم. ذكر المخرج كمال عبد العزيز أنه نجح بعد مشقة في الحصول علي شريط سينمائي مدته ثماني دقائق يوثق هذا الحدث قام بتصويره طبيب ألماني تصادف وجوده أثناء اندلاع الحريق وقام بتصويره بكاميرته الخاصة. مدة الفيلم ٤٠ دقيقة ترصد مشاهد حية للحريق ومحاولات رجال الإطفاء احتوائه بأساليب بدائية عبثية فشلت في إخماد النيرات التي أتت علي المبني ومحتوياته النادرة بالكامل. ينطوي إبداع الفيلم في الصور الحية النادرة وسلاسة التصوير والمونتاج، وتسجيل شهادات موثقة لرموز الفن الأوبرالي الذين عاصروا هذا الحدث واعتصرهم الألم وهم : د/ مصطفي ناجي، ود/ طه ناجي، ود/ رتيبة الحفنب، ود/ ماجدة صالح، وفيوليت مقار، وحسن كامي، وجابر البلتاجي، وعبد الحميد جاد، وبعض العازفين الأجانب، وصالح عبدون آخر مدير للأوبرا. تم طرح تساؤلات بلا إجابة، وجميعها توحي بأن الحادث متعمد. احترقت الأوبرا بكل ما تحريه من كنوز ثمينة، واحترق المتحف، والملابس، ومئات الكتب، والنوت الموسيقية. غابت الأضواء عن ميدان الأوبرا الشهير وأصبح ميدانآ عبثيآ. كانت منطقة الأوبرا رمزآ للرقي والجمال والمظهر الحضاري العصري بما تضمه من تحفة الأوبرا المعمارية رمز القوة الناعمة في مواجهة تمثال القائد العسكري الفذ إبراهيم باشا رمز القوة الصلبة وحديقة الأزبكية أيام كانت جميلة. والسؤال، هل كان حريق الأوبرا إيذانآ بانهيار الثقافة والفنون الرفيعة؟والمفارقة أن تقيم فرنسا دارآ للأوبرا مكان سجن الباستيل الشهير، بينما تقيم مصر جراجآ قبيحآ متعدد الطوابق مكان دار الأوبرا العتيق.