* هي أزمة فكرية، أوجدتها ذاتية ووجدانية توصيفات ونعوت، نحاول تحليلها في هذه المقالة ضمن ( فلسفة الإطار )، وليس ( فلسفة المضمون ). وهذا يعني أنها ستنصب على شكل محدد من الكلام، يتعلق بالوصف أو النعت لحدث معين، دون الدخول في تفاصيل هذا الحدث،كأنها تمهيد. وأما الكلام عن المضمون، فله مجال آخر قد نخصص له مقالات (في فلسفة المضمون)، وليس مقالة واحدة. ونسأل الله التوفيق وحسن البيان.
* تتعلق هذه المقالة بتحليل ونقد أشهر ( التوصيفات والنعوت ) لما اشتهر إعلاميا ( بمحاورة الطيب مع الخُشت ). وبخاصة تلك التي صدرت عن متخصصين أو ذوي حيثية علمية عالية. ولقب الطيب هو لمولانا ( الفيلسوف ) الأستاذ الدكتور أحمد الطيب شيخ الجامع الأزهر، وتخصصه الدقيق ( عقيدة وفلسفة )، كلية أصول الدين والدعوة بجامعة الأزهر. ولقب الخُشت هو لسيدنا ( الفيلسوف ) الأستاذ الدكتور محمد الخُشت رئيس جامعة القاهرة، وتخصصه الدقيق ( فلسفة دين ) كلية الآداب جامعة القاهرة. إذن طرفا المداخلة ( فيلسوفان ) بحكم التخصص الأصلي والعلمي، والتأليفي الاجتهادي، بغض النظر عن موقع كلاهما الوظيفي الرسمي الحالي.
* وإن إصراري على وصف الطيب والخُشت بلقب (فيلسوف)، ليس مردودا فحسب إلى جهدهما الفلسفي الرصين أو التديني الكلامي المتين، بل أيضا نابع من قناعتي بضرورة أن يُلقب كل من درس الفلسفة – سواء حصل فيها على دراسات عليا ماجستير ودكتوراه أو اكتفى بمرحلة الليسانس – بلقب (فيلسوف). وضرورة أن يصير هذا اللقب معترفا به في كل التعاملات، بل والمحررات الرسمية، كلقب الطبيب والمحامي والمهندس وغيرهم . ويليق بهذا المقام أن ندعو ونطالب بتأسيس ( نقابة الفلاسفة ) نقابة فلاسفة مصر، بحيث تقوم على رعاية كل خريجي ودراسي الفلسفة من الجامعات العامة والأزهر، وتقوم أيضا على رعاية وتدبير كل شئون الدرس الفلسفي العام.
* ونعود إلى صلب المقالة، فنطرح بداية بعض الأسئلة: هل ما حدث كان (محاورة) فلسفية أو تدينية فكرية خالصة، أم كان مجرد (مداخلة) وتعقيب من طرف لطرف آخر؟! ومن هو أول من وصف المداخلة ؟! وهل كان محقا في وصفه أم كان متجاوزا فيه؟! وما هي أكثر التوصيفات خطأ؟! وما هي أكثرها انتقاصا ؟! وما هي أشدها تطرفا؟! وما هو التوصيف الاستدعائي التاريخي الفلسفي لها؟! ولماذا لم يتوقف الواصفون والناعتون بحسب وجدانهم، عند حدود ما حدث في الواقع فعلا؟!
* في رأيي أن الحدث لم يكن محاورة بحسب ما نعرف من تاريخ التفلسف أو من منهجية الجدال؛ لأن المحاورة لا توصف بهذا الوصف إلا إذا اتفق طرفاها على هذا التحاور، بحيث يكون بين الطرفين علم مسبق بموضوعها وكيف ستمضي إجراءاتها. وحيث أن هذا الاتفاق لم يتم مسبقا فيما بين الطيب والخُشت، فإن وصف ما حدث بالمحاورة لا يستقيم عندي. وعلى ذلك سنعتبرها مجرد مداخلة أو تعقيب من الطيب للرد على ما رآه يستحق – من وجهة نظره – النقد أو النقض في كلام الخُشت، سواء في البحث الذي عرضه الخُشت في ( مؤتمر الأزهر الشريف لتجديد الفكر الإسلامي )، أو في كتاب الخُشت ( نحو تأسيس عصر ديني جديد )، الذي أهداه للطيب قبل المداخلة.
* وكان أول توصيف فوري للمداخلة، أو بالأصح للجزء الأول منها، قد صدر من الخُشت ذاته، إذ قال مخاطبا الطيب: (حضرتك حولتها لمعركة بين اثنين)! فرد عليه الطيب بقوله ( أنا لم أحولها لمعركة، أنا آخذ من كلامك ). فما الذي دعى الخُشت إلى توصيف ما حدث بالمعركة؟! لعل السبب في ذلك هو مفاجأة الهجوم غير المبرر من الطيب على كتاب الخشت، ورفضه بالإجمال، دون أن يقرأه باعترافه: (لسه أنا لم أقرأه) . واحتج الطيب لرد الكتاب بسؤال تقريري وجهه للخشت قائلا ( هل هذا الكلام الذي تقوله في هذا الكتاب تعتقد أنه مطلق أم تشك فيه؟! )، وحاول الخشت أن يرد على السؤال، لكن الطيب قال له ( إن كنت تعتقد أن هذا الكلام مطلق، فقد سقط مذهبك، وإن كنت تعتقد أنه مشكوك فيه، فأرجو حين تتأكد اهدي إليّ كتابك )! وضجت القاعة بالتصفيق، ولا أعرف لماذا صفق الأزهريون؟! فهي حُجة لا تقنع المتخصص بحق في فلسفة الدين أو الفلسفة الإسلامية فضلا عن المتخصص في علم الكلام. وهي حُجة يمكن أن يُرفض بها أي كتاب آخر، حتى لو كان كتابا للطيب ذاته. ويبقى تصريح الطيب بأنه لم يقرأ كتاب الخشت، شاهدا على بطلان حجته تلك. وقد يكون للخشت بعض العذر في التوصيف الذي ذهب إليه بأن الطيب – بهذه الحجة – قد حول المداخلة إلى ( معركة كلامية )، تم فيها استخدام سلاح كلامي غير مشروع. ولو كان الطيب قرأ كتاب الخشت ونقده – بأن ذكر ما فيه من إيجابيات وسلبيات، ثم طرح الحلول الممكنات للمشكلات – لكان لمداخلته شأنا آخر أفاد به الجميع. لكن يظهر أن هناك من أوغر صدر الطيب على كتاب الخُشت – وبخاصة لفظ ديني في العنوان – قبل أن يقرأه، فنتج عنه هذا الموقف الكلامي العدائي
* ثاني توصيفات المداخلة هو ما ذهب إليه د. مبروك عطية – في برنامج (يحدث في مصر) مع شريف عامر – حيث قال (ما حدث هو أشبه ما يكون بمناقشة رسالة دكتوراه) . وهو توصيف لا يليق أبدا بحقيقة ما حدث، فلم يكن الخشت بكتابه كطالب دكتوراه، ولم يكن الطيب بمداخلته كمشرف له أو مناقشا لرسالته. ولا أعرف كيف يتفق توصيفه هذا مع إعلانه احترامه للخشت في بداية كلامه، إلا أن يكون ذلك تناقضا، أو تزلفا للطيب. ويظهر أن المبروك لم يقف على تهافت حجة الطيب في رفض كتاب الخشت.
* أما ثالث التوصيفات للمداخلة فهو استدعاء تاريخي فلسفي؛ لأجل تشبيه شخصاني معاصر، حيث تم فيه تشبيه الطيب بالغزالي والخشت بابن رشد، أو بالأصح إلباس الطيب ثوب الغزالي المتحجر، وإلباس الخشت ثوب ابن رشد المتطور. وكان أول من ذهب إلى هذا التوصيف هو د. هاني عبد الفتاح (باحث دكتوراه فلسفة) حيث قال (على حسابه فيسبوك) إن المداخلة : ( نوع من الديالوج التطوري الذي يتولد منه مركب جديد يثري الحياة الثقافية بشكل عام …. ولا أعلم لماذا رأيت الطيب في صورة الغزالي، ورأيت الخشت في صورة ابن رشد …. يستعمل الغزالي الخطاب الجدلي في إفحام الخصم، والأسلوب الخطابي لدغدغة مشاعر الجمهور، فتعج القاعة بالتصفيق. ويستعمل ابن رشد الخطاب البرهاني القائم على البداهة والقياس الصحيح. ورغم ذلك لا يجد ابن رشد من يسمع له أو يفهمه إلا القليل ….. لكن الخشت أراد أن يفترق عن ابن رشد في أن يصرح للعامة بما لا يعرفه إلا الخاصة، فكان ما حدث. تُرى هل نجح الخشت في المواجهة أم تراه يعود أدراجه يقول كما قال ابن رشد بأنه لا ينبغي التصريح للجمهور؟). ثم استدعى د. أشرف منصور (أستاذ الفلسفة الحديثة بآداب الإسكندرية) ابن رشد فقط (على حسابه فيسبوك) حيث قال : ( إن الحوار يعيدنا مرة أخرى إلى كتاب ابن رشد “فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال”، الطيب ممثلاً للشريعة (الدين) والخشت ممثلاً للحكمة (الفلسفة). لا يزال ابن رشد معاصراً لنا ولا تزال أطروحاته محل جدل وخلاف، ولا يزال هو نقطة البداية في أي تفكير في الشريعة وأي محاولة للتجديد أو الإصلاح). وقد أبدى الخشت إعجابه بتوصيف منصور ، ووصفه بالروعة والتميز كموقف فلسفي.
* ولا أتفق مع هذا التوصيف الاستدعائي التاريخي الفلسفي، وأرى أنه لا يتوافق مع شخصية وفكر كل من الطيب والخشت، فكلاهما فيلسوف إسلامي معاصر، يسعى لتجديد الفكر الإسلامي بحسب مستجدات قضايا العصر. وإن وضعهما على طرفي تناقض أو تضاد بتشبيههما بالغزالي وابن رشد ليس من منهجية البحث العلمي الموضوعي، الذي يجب أن يقف على حقيقة مشروع كل منهما الفكري التجديدي المعاصر. وإن تجاوز ذلك يعد هروبا إلى الخلف، فلا الطيب كالغزالي ولا الخشت كابن رشد، وإنما لكل منهما ذاته المستقلة في التدين والتفلسف والتجديد الفكري المعاصر
* ونختم بتوصيف د. ناجح إبراهيم في مقالته بالأهرام (الإمام والخشت، لا تفسدوا ودهما )، وقد حاول فيه (أن يجمع بين رأيي الحكيمين) ، من باب وجداني نبيل وهو عدم إفساد الود بين الطيب والخشت. وقد أتفق جزئيا مع توصيف الناجح، اتفق مع هدفه لا مع مضمونه. فهو يحاول الجمع بين رأيي الحكيمين، وفيه قدر كبير من الإيجابيات فقط، لكنه يخلو تماما من أية نزعة نقدية تذكر السلبيات مع الإيجابيات وتطرح حلول للمشكلات. إنه إذا كانت المداخلة أصلا قد تمت لأجل النقد أو بالأصح النقض، فكيف يتم تجاهل ذلك الأمر الأساسي في التوصيف ؟! وعلى كل حال يعتبر توصيف الناجح مقبولا إلى حد كبير.
* أما التوصيفات التي تصور المداخلة بأنها (حرب بين الإسلام والعلمانية، أو حرب بين الإسلام والكفر) ، وأيضا توصيفات العوام (المسيئة لطرف أو للطرفين)، فلا يصح التوقف أمامها أو إعارتها اهتماما؛ لأنها تتجاوز كل حد فكري وعقلي في التوصيف.
* وأخيرا، ليس للباحث الموضوعي في ماهية حدث معاصر، أو توصيفه، أن يتجاوز الحال الواقعي للحدث، بافتراضات وهمية، أو هروب للخلف، أو تطرف في تصور ما لا يمكن أن يحتمله الحدث، ولا يصح توصيف أو بحث موضوعي دون نقد منهجي يذكر الإيجابيات والسلبيات ويطرح الحلول للمشكلات، مع عدم التعرض بسوء أو انتقاص للذوات. وليس فكر أحد هو ذاته، فالذات مصانة، والفكر لابد أن يُنتقد دائما، وقد يُنتقض أحيانا. ورضي الله عن مولانا الطيب وعن سيدنا الخشت.