واجهت الإنسانية خلال الشهور القليلة الماضية تحدياً يهدد بقاءها على قيد الحياة.. أو بالأدقِ بقاءَ طبائِعُها التى اعتاد عليها البشر منذ نشأة هذا الكون.. وعلى أثر هذا التحدي سقطت كثير من المقولات المرتبطة بطبيعة التعايش الإنساني.. وأولها مقولة “أرسطو” بأن الإنسان كان اجتماعي بطبعه..
ومن ثم فمن المستحيل أن يعيش الإنسان معزولاً أو مستبعداً اجتماعياً.. فقد كسر الوباء كل هذه القواعد.. وجعل من الضرورة بمكانٍ أن يخالفَ الإنسانُ طبائعه فى أن يكون اجتماعياً. فالعزلة والابتعاد الاجتماعي تحت هيمنة الفيروس صارت شرطاً ضروريًا لاستمرار الحياة.
ليس ذلك فحسب بل هشّمَ الوباء أدمغة العولمة.. وفتكَ بفكرة تحول العالم إلى قريةٍ كونيةٍ واحدة، لا تعزلها سوى الحدود الجغرافية.. وأسقط فكرة أن الاحتكاكَ الثقافي والخُلطة الاجتماعية شرط للحاق بقطار النهضة.. وبات من الضروري للحفاظ على الإنسانية أن تعزل المجتمعات نفسها.. وتعمق الحدود، وترفع الأسوار بينها؛ حتى لا تنتقل الجائحة من منطقة لأخرى.. إذ يبدو أن كورونا هو رسالة من الله إلى الأرض؛ لإصلاح ما تبقى من منظومة الفعل الإنساني، التى ترهلت عبر سنوات من الضياع القيمي.. وحان الوقت لإعادة بنائها من جديد..!
لم تتأثر وحدها القيم الإنسانية والعادات والتقاليد المرتبطة بالاحتكاك الاجتماعي والتزاور بين البشر والتحايا وطرائق السلام والتصافح وحتى النظافة الشخصية والمنزلية، فضلا عن العمل الجماعي وأساليب إدارة الأعمال والمنشآت.
كما أنه لم تتأثر البرامج والمشروعات الاقتصادية وحدها بتلك الجائحة؛ وإنما تأثرت أهداف الألفية برمتها من جراء هذا الفيروس اللعين.. الذي تسبب فى كشف عورات كافة الأنظمة الدولية.. وأثبت للعيان أن مظاهر النهضة والتقدم التى تتباهى بها تلك الدول ما هي إلا “ريش على مفيش”!
وفى هذا السياق جاء تقرير الأمم المتحدة فى هذا الشهر موضحا لآثار هذا الوباء على الأهداف الـ 17 للتنمية المستدامة.. الأمر الذى ربما يدفع المنظمة إلى إعادة ترتيب أهدافها وأولوياتها فى مرحلة ما بعد الجائحة، التى لا يوجد أي مؤشر يمكن الاعتماد عليه فى التكهن بموعد انتهائها، أو بالحجم الفعلي للخسائر المادية والبشرية التى ربما تنجم عنها.
فقد أسفر التقرير عن تسبب الوباء فى عرقلة إنتاج الغذاء وتوزيع المؤن، كما تسبب في عدم تمكن فئات إنسانية كبيرة من الوصول إلى الماء النظيف؛ مما أدى إلى منعهم من غسل اليدين بالشكل الصحيح..
فحسب احصاءات منظمة الصحة العالمية يوجد 3 مليارات شخص على الصعيد العالمي قد لا يحصلون حتى على مرافق أساسية لغسل اليدين في منازلهم. ولعل هذا ما جعل هذه الفئات أكثر عرضة للإصابة بالوباء..
وفى هذا الصدد أشار التقرير إلى أن سكان العشوائيات اكثر عرضة للإصابة بالفيروس نظرا لكون العشوائيات هي الأكثر كثافة فضلاً عن افتقارها إلى النظافة والتطهير . ليس هذا فحسب بل تسبب هذا الوباء فى عجز النظام الصحي فى معظم الدول عن استقبال جميع المصابين بالفيروس، ناهيك عن تأثيره الكارثي على نتائج الكشوف الطبية.
وفيما يتعلق بالتعليم أشار التقرير إلى تأثر ما يقرب من 1.25 بليون متعلم، أو 72.9%من مجموع المتعلمين المسجلين في جميع أنحاء العالم بتفشي الفيروس التاجي حتى 20 مارس الماضي، حيث تسبب الفيروس فى غلق كثير من المدارس ولجوء كثير من الحكومات إلى التعليم عن بعد.. الذى عدهُ كثيرٌ من الخبراء بأنه غيرُ كفء، وليس متاحا لكثيرٍ من التلاميذ.
وحسب ما تضمنه التقرير فقد تسبب الوباء فى انتهاك مبدأ المساواة بين الجنسين؛ إذ جعل المرأة تفقدُ جزءاً كبيراً من دخلها، فضلاً عن زيادة معدل العنف الموجه إليها. فلما كانت النساء تمثلن الشريحة الأكبر من العاملين فى الصحة والرعاية الاجتماعية؛ فهن الأكثر عرضة للإصابة بالوباء.
وفيما يتعلق بالعمل اللائق والنمو الاقتصادي فقد توقعت منظمة العمل الدولية أن يفقد ما يقرب من 25 مليون شخص وظائفهم بسبب الأزمة الاقتصادية، وأزمة العمل الناجمة عن الوباء. وحذرت المنظمة من أن الأشخاص الذين يعملون في وظائف غير رسمية لن يحصلوا على الحماية الاجتماعية التي يحتاجونها في أوقات الأزمات. ودعت الحكومات إلى أن تضمن على الأقل مستوى أساسياً من الضمان الاجتماعي للجميع، وأن تكفل تدريجياً مستويات كافية من الحماية لأكبر عدد ممكن من الناس، وفي أقرب وقت ممكن.
وأشار التقرير إلى المغارم الاقتصادية التى يمكن أن تتكبدها الدول جراءِ انتشارِ هذا الوباء.. إذ إن انتشاره أدى إلى تعطلِ أو توقفِ كثيرٍ من الأنشطةِ الاقتصادية، كما أدى إلى تقليص وقت العمل وتخفيف أعداد العمالة؛ مما تسبب فى تراجع مستوى الدخل، وارتفاع معدلات البطالة.. ووقوع كثير من الأسر والمجتمعات تحت خط الفقر.. ففي الأزمات عادة ما يدفع الفئات الأكثر ضعفا الثمن باهظاً..
وحول الأجواء الإيجابية التى تسبب هذا الوباء فى خلقها.. أشار التقرير إلى أن انتشار هذا الوباء دفع الأمم المتحدة إلى توجيه نداء عالمي عاجل لوقف إطلاق النار في جميع الأنحاء.. كما دعت إلى بذل جهدٍ دوليٍ موحدٍ لمكافحة الوباء.. مؤكدةٌ أن غضب الفيروس يوضح حماقة الحرب.. وأنه قد حان الوقت لوقف الصراع المسلح.. والتركيز على المعركة الحقيقية لحياة الشعوب.. فاكثر الناس عرضةً للمعاناة من الخسائر المدمرة للفيروس هم سكان المجتمعات المليئة بالصراعات.!
ورغم الثورة المتفاقمة ضد العولمة التى كرسها الفيروس وانشغال الحكومات عن أنشطة وبرامج تحسين المناخ.. وتكريس الجهود للتعاون الدولي من أجل الصحة العامة.. إلا أن تراجع معدلات الإنتاج وانخفاض حركة التنقل تسببوا بشكل غير مقصود فى تراجع معدلات التلوث البيئي!
وأشار التقرير فى خاتمته إلى أن معظم الجهود التى تبذلها حكومات العالم لمواجهة كورونا هى جهود “دفاعية” ربما لا تحقق النتائج المرجوة منها لمواجهته.. فليس بالدفاع وحده نكسب المعركة، وإنما بالهجوم أيضاَ.. ومن ثم فنحن بحاجة إلى مهاجمة الفيروس بتكتيكات عدوانية محددة الهدف..