ماريت على دربكم.. يا فرحى يا وجعي
لابس سديرى قطيفه.. ومزرره بوجعي
بكره تدق الطبول.. واحضر لكم مدعي
أنضر حبيبى بعينى.. ينجلي وجعي ..
هذه الكلمات التى كان يرددها دائما عم حمدي المراكبي الذى اختار موقعه على “دفة المركب” لتوجيهها الاتجاه الذى يقصده. والتى إن ربطنا بين معانيها ومكانه على الدفة لاكتشفنا أننا أمام حالة إنسانية خاصة بطلها شخص يدعى العم حمدي.
فالناس فى صعيد مصر عادة ما ينظمون الشعر بالفطرة.. والقليل منهم من يستهويه الشعر فيحوله من هواية إلى مهنة.. لكن سماع الشعر بلهجة عم حمدي له وقع خاص! خاصة إذا اختلطت كلماته بماء النهر ولحظات النسيم التى تصاحبه!
فالنيل الذى فى الصباح غير الذى فى المساء.. فلكل وقت نسائمه، ولكل وقت مواجعه.. هكذا كان يقول عم حمدي المراكبي.. فإذا كان الخوف يمنع القلوب من الاحساس بالحياة، فإن الخوف من النيل فى المساء يجعلك تستشعر معناها الدفين، حين تنظر لظلمته ويهزك صوت السكون الماكن على سطحه.. حتى صوت تلاطم الأمواج فى المساء له موسيقى وأحاسيس مغايرة عن تلك التى كنا نسمعها فى الصباح..
ربما كانت هذه المشاعر وتلك الأحاسيس سببا كافيا لأن يعمل عم حمدي على النهر بمركبه الصغير.. فمهنته جعلته دائما قريبا من النهر.. يصادق كل اللحظات التى تمر بالنيل ويستشعر معانيها الدفينة..
فكان يعيش النهار على سطح المركب، وفى المساء يستكين فى “سندرته” المخبأة فى باطن المركب.. ينام فى “بطن مركبه” وكأنه نائم فى بطن النهر، يستشعر دفئه فى الشتاء كما يستشعر برودته فى الصيف..
ورغم شدة تعلقه بالنهر وحرصه على أن يكون دائما على مسافة قريبة من مائه العذب.. إلا أنه كان احرص على أن يكون أولاده بعيدين تماما عن شاطئه.. وحين كنا نسأله عن السب يقول بلهجة عامية بسيطة: النيل مش محتاج مجاذيب زيادة!
كان عم حمدي المراكبي يمتلك ثلاثة أحجام من المراكب.. المركب الأول عبارة عن قارب صغير يسمى “الفلوكة” وكان عم حمدي يطلق عليه اسم “المُسعِف” يستخدمه فقط لنقل فرد أو فردين لأمور عاجلة.. والثاني عبارة عن مركب خشبي متوسط الحجم، تتراوح حمولته من 15 إلى 20 شخصا. ولا يحمل على متنه البهائم، له شراع بسيط أو كما يقولون “قِلع” متوسط الحجم.. والمركب الثالث “الصندل” وهو عبارة عن مركب مصنوعة من الخشب والصفيح المقوى أضخم حجما من المركب الخشبي وله شراع ضخم مقارنة بشراع المركب.. تنقل على متنه البهائم والبضائع والبشر.. كان يسميه عم حمدي “سفينة نوح”!
كان لحمدي المراكبي عادات مغايرة لعادتنا، وأحيانا كانت عادته متناقضة مع بعضها.. فرغم عشقه الجنوني للنيل، إلا أنه لا يعرف العوم ولا يعشق السباحة فى ماء النهر.. ولا يستهويه الصيد ولا أكل السمك.. فقط كان يحب الغوص فى النهر بخياله الواسع.. وينسج حوله قصص وحكايات يقنعنا أحيانا بأنها قد وقت بالفعل، ورغم قناعتنا بأنها من خياله الرحب، إلا أننا كنت نصدقها..
فيبدو أنك حين تحب؛ تسلم لمحبوبك كل شيئ حتى قناعاتك.. تنسج معه حكايات لم تحدث.. وتخلق حوله بخيالك مواقف لم تقع.. كأن قلبك صار صندوقا رحب.. عششت فيه كل تجاربك مع من تحب.. حتى وإن لم تكن قد حدثت!
عم حمدى ذلك الرجل النحيل الذى لا يملك سوى ثوبين أحدهما للعمل بالنهار، والثانى فى المساء.. وكان يقول أنا شخصان فى بدن واحد .. فى النهار أحمل الناس على ظهر مركبي.. وفى المساء احتاج لمن يحملني على ظهره.. أكره الخوف كرهي للموت.. وأحب النيل محبتي للسماء.. لا أحب أن يفصل بينهما فاصل.. وأحب دائما أن أكون شاهدا على علاقة العشق التى بينهما!
أعشق القمر فى المساء حين أراه يعانق مركبي.. وكأن مركبي فى المساء راحت ترتاح من عناء اليوم فى الترحال على شاطئ النهر.. ووجهت صاريها للسماء.. لتحكي للقمر كيف كان يومها مع شقاء الفلاحين.. حمل النيل على ظهره الكثير.. ماتوا جميعا.. لكن النيل لم يمت.. لكن النيل لا يموت.. لكن النيل لن يموت..
لم تكن حياة عم حمدي عادية كسائر المراكبية.. أو كسائر سكان جزيرتنا.. فقد كان يعشق الهدهد.. وكان يقول صغير حجمه لكن قلبه كالجبل.. لا سلاح فى يده لكن بفصاحته فتح البلاد التى لم تفتحها قوة السلاح.. وكان يقول بلادنا لا تحتاج لأجساد البغال بقدر حاجتها إلى قلب الهدهد!
لم أعاصره وقت أن كان شابا فقد أخبرني أبى بأنه كان ضحوكا خفيف الظل حمالاً لانفعالات البشر.. وكان يتقاضى أجرته فى مواسم الحصاد.. كيلة من حبوب القمح أو الذرة أو السمسم أو الفول السوداني.. وحين كانت تعرض عليه النقود.. يقول لست مدمنا لعد الفلوس لكن تستهويني رائحتها!
كان عم حمدى يعانى من بياض فى عينه اليمنى.. وكانت لا تنقطع نظراته الى الجهة الشرقية من النهر.. وحين تصادف عينه منطقة بعينها تتساقط دموعه فى صمت..
سألت أبى حينها عن السبب ، فأخبرنى بأنه ذات يوم وقبل غروب الشمس بقليل كان عم حمدى يسير بمركبه الصغير فى النهر.. وإذا بأطفال القرية يصيحون بصوت مرتفع “يا جثة حَلِت الدفنّة”.. وما إن سمع عم حمدى صوت الأطفال حتى أسرع بمركبه إلى الشاطئ الشرقى وأخذ يلوح بذراعه ويقول: “يا جثة حلت الدفنَة”.. وإذا بالجثة ترفع يدها وتتجه إلى حيث يقف عم حمدي..
وعندما اقتربت منه الجثة أدرك عم حمدى أنها جثة لأنثى وليست لذكر.. فعادة ما كانت تأتى جثث النساء منكفئة على الوجه بعكس جثث الذكور!
وما إن اقتربت الجثة منه أمسك بها المراكبي وحملها بمعاونة بعض الحضور.. وذهبوا بها إلى تبةٍ رملية عالية ملاصقة لشاطئ النهر.. وأخذوا يحفرون لها قبراً.. ولما وضعوها فى القبر.. صادفت عورتها عيني عم حمدي.. وبشكل غير شعوري وجد نفسه يقول “والله لو كنت حافظتي على هذا – يقصد العرض– ما كان قد فعل بكي هكذا.. وإذا بالجثة ترفع يدها وتصفعه على وجهه؛ فتبيض عينه فى الحال”!
لقد فقد عم حمدي عينه اليمنى وفقد معا صفات عديدة.. أولها الضحكة التى كانت لا تفارق وجهه البشوش.. فتحول الرجل الضاحك إلى كائن غريب يسكن الحزن كل ملامحه.. كان يقول كيف أضحك وعرض البريئة يقف على الطريق، ليحول بينى وبين نفسى.. كيف ألقى ربي وعرضها يشدني بقوة إلى الجحيم.. يا ليتها تكتفى بعيني عند القصاص.. يا ليتها تكتفى بالبدن وتعفو عن الروح!
لقد كنت أطلق لساني فى أعراض الناس كما كانت تطلق مركبي صاريها فى الفضاء.. لم أخف يوما من عقوبات البشر؛ فعاقبتني جثة هامدة.. لتعلن بقوة عن براءة عرضها من دنس البشر.. وتخبرني فى وجع بأن القبور كالسجون مليئة بالمظاليم!
لقد أخذت الغريقة معها كل ما فِيِ.. وتركت بداخلي قلب يتوجع.. لا أعلم متى اللقاء ولا أعلم متى ينتهى الجحيم الذى أسكن فيه أو الذى يسكنني!
فويل لمن أطلق لجوارحه العنان.. وويل لمن جعل حياته رهن هواه.. موجع أن تزرع الأمل فى أرض الغير.. والأرض التى بداخلك بور.. لن يثمر زرعا زرعته حولك.. والزرع الذى بداخلك عقيم..
كنت أتخيل أنا بداخلي قلب هدهد، لا تهزمه شدائد الرجال.. فكسرتني جثة أنثى.. حين خاض فى عرضها لساني بلا وعي.. سلبتني الاحساس بكل متع الحياة.. ويا ليتها تكتفى!
كبر العمر وشاب الشاب اليافع الذى بداخلي.. ترهلت إرادتي وتضخم الجسد النحيل.. ثقلت قدمي على الأرض.. اقترب البدن من القبر.. وأخشى لحظات اللقاء كما أخشى عليكم حمل جثة أثقلها الخوض أعراض البشر.. وأخذ يقول بعاميته الصعيدية البسيطة:
حجر الطاحون بيدور.. يا قلبي ناره فى حشايا
ساعة بيطحن ظلم.. وساعات بيدهس برايا
يلى ناويت ع الظلم.. أُحكم وخُد بالنوايا
وان كنت قادر على الظلم.. ارحم قلوب الصبايا
لقد كانت كل حكايايا التى أطالعكم بها من وحى الخيال.. كنت أُصدقها حتى أُمتعكم بها.. لكن حكايتي الوحيدة الصادقة كانت مؤلمة.. فعادة ما يكون الواقع أسوأ بكثيرٍ من الخيال.. كنت اختبأ دائما خلف حكاياتي.. لأشاهدكم من بعد.. وأرى الذى لا استطيع أن أراه فيكم وأنا بينكم.. أفتش فى ملامحكم عن نفسى.. لعلي أجدها.. أو أجدكم فيها..
إذا ما مِتُ ادفنوني بالقرب من قبر القلم الذى صفعني على الخد.. ادفنوني بجوار الغريقة البريئة التى حين أنقذت جثتها من الغرق أنقذتني من وهم الدنيا.. ادفنوني بجوار القبر الذى يفوح بعطر الطهارة والشرف؛ لعل يصيبني بعض من نسائمه..
ومات “حمدي المراكبي” ونفذ الجميع وصيته وعلى صدره سلسلة من الفضة مكتوب عليها “عرض الغرقانة”!