في أجواء هذا الشهر الذي ليس كمثله شهر بنهاراته الجميلة، ولياليه التي تعبق بكل سكينة، رغم الثرثرة الإعلامية العامة التي يجب أن يعتذروا عنها.. في كل مكان.
وفي فضاء الساعات الأخيرة التي نتمنى أن تبطيء عقاربها وثوانيها، تهمس فيها لغة الأعماق البعيدة التي ترتل منظومتها القلوب العطشى لقطرة من غيث آثار رحمة الله..
لا ترتضي النفس إلا أن تعيش مع النفحات الروحية المُباشرة وفي غمرة التجليات الوجدانية اللامباشرة.. في سياق المقامات الصوفية الثلاثة: «التخلي» و«التحلي» و”التجلي”.
قل هي مفارقات.. قل هي ثنائيات.. قل هي جدليات..
رعشة روح.. بارقة جارحة.. شحنة صدر.. نبضة قلب.. سعة عين.. خفقة وجدان..
والقاسم المشترك الأعظم بينها: تسبيحة مديدة تدثر النفس باليقين في عالم يفتقر اليقين، ويفتقد الصدق.. وتفتخر قيادته بالضلال والتضليل، عالم أصبح مثل النَّار تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله..
تسبيحة تتجلى في بعدها الرابع الذي يتزامن مع اقتراب النقطة الأخيرة في سطر شهر ليس كمثله شهر حقا وصدقا.
فراغ اللحظة الراهنة يغريني على فتح صفحات مفكرتي الخاصة التي أدون فيها رحيق تجارب وحريق حيوات، كما ذكرت في بداية هذه السلسلة ذات التجليات الرمضانية.. إنها غواية التأمل والتفكير في اللامفكر فيه.. والحيرة في المسافة المتحركة بين المعقول واللامعقول..
(1)
من رضي بقَدري أعطيته على قدْري…!
سبحانك اللهم يا رحمن كل شيء وراحمه…!
(2)
دونت هذه الكلمات منذ فترة بعيدة جداً، وكنت كلما أجدد مفكرتي الخاصة جداً، أعيد تسجيلها مرة تلو مرة، ومرت الأيام، وعركتنا التجارب، وتجادلنا مع السنين، وظهرت السطور الحكيمة وهي تضمد جرحاً لم يكن ليريد أن يلتئم: لو أصبت 99 مرة، وأخطأت مرة واحد.. لعاتبوك بالواحدة وتركوا الـ99 هؤلاء هم البشر، ولو أخطأت 99 مرة، وأصبت مرة لغفر الله الـ99 وقبل الواحدة، ذلكم هو الله. فما بالنا نلهث وراء البشر… ونبتعد عن الله؟!
(3)
رحم الله الشاعر والفيلسوف الباكستاني محمد إقبال الذي كان يشعل في النفوس طاقة التصديق الإيماني في زمن تتغشاه الماديات المزيفة ولا تزال، كان يحمل نبوءة مخبوءة في ضمير الغيب :
إذا الإيمان ضاع فلا أمان
ولا دنيا لمن لم يحيي دينا
ومن رضي الحياة بغير دين
فقد جعل الفناء لها قرينا
(4)
العلم لا يعطيك بعضه، حتى يعطيك كله. (الشيخ محمد متولي الشعراوي) الشَّريعةُ جاءت بتكليف الخَلْقِ، والحَقِيقَةُ جاءت بتعريف الحَقِّ. فالشَّريعَةُ أن تَعْبُدَهُ، والطريقةُ أن تَقْصِدَهُ، والحقيقةُ أن تَشْهَدَهُ. ثُمَّ إنَّ الشَّريعَةَ قيامٌ بما أمر به وبصَّر، والحقيقةَ شهودٌ لما قضى وقدَّر. (الصوفي محمد زكي الدين إبراهيم).
(5)
إن تعجب فعجب من أحوال النفس الإنسانية، تحب إنسانا فتراه ملكاً، ثم تكرهه فتُبصره شيطاناً، وما كان ملكاً ولا كان شيطاناً، وما تبدّل! ولكن تبدلت حالة نفسك!
وتكون في مسرة فَترى الدنيا ضاحكة، ثم تراها وأنت في كدر باكية، قد فرغت في سواد الحداد ما ضحكت الدنيا قطّ ولا بكت! ولكن كنت أنت: “الضاحك الباكي”.
(6)
في صفحات مفكرتي التي أغيرها كل ثلاث سنوات يفتح القلب عدسته إلى سطور تجمع بين الدين والدنيا، كثنائية متلازمة، تتفاعل لتتكامل… أحدق في هذه الفقرة الرائعة من ينابيع المفكر العظيم، الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: سيقنعونك أن الفقر ليس عيبًا، وأن الله يحب الفقراء أكثر، وأنَّ النبي عليه الصلاة والسلام كان فقيرا، وأن القناعة كنز لا يفنى، وأن الزهد فضيلة، وأن الطمع رذيلة، وأن الطيبة هي رأسمال الفقراء، وأن الأغنياء هم محض مصاصي دماء.
نوع جميل من المخدرات، ستجعلك تستمتع بفقرك، تستلذ بحاجتك، ترضى بضعفك وقلة حيلتك !!
لن يحدثك أحد عن عُثمان وجيش العسرة، ولا عن طلحة وسخائه، ولا عن الزبير وعقاراته، ولا عن ابن عوف وتجارته، ولا عن ابن أبي وقاص وصدقاته، رضوان الله عليهم أجمعين.
لن يحدثك أحد عن استعاذة سيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه من الكفر والفقر، ولا أن اليد العليا خير من اليد السفلى، ولا أن المؤمن القوي خير عند الله من المؤمن الضعيف.
بل سيقولون لك إنه لا بأس أن تكون (فقيرا، ضعيفا، محتاجا) فحينها، لن تسأل، لن تنتقل لمرحلة تطالب فيها بأكثر من قوت يومك، لتتساءل فيها عن الظلم، عن الانبطاح، عن الاستضعاف، فحينها، ستصبح مزعجا، متطفلا، متجاوزا لمكانتك، حينها ستفكر، ستخطط، ستعمل، وربما- لا سمح الله- ستنتصر.
(7)
جاء في الأدبيات الإنسانية الوجدانية.. أن أحد التلاميذ سأل شيخه عن الحساب في الآخرة، فقام الشيخ من مكانه ووزع على طلابه شيئاً من المال، فأعطى الأول 100 جنيه، والثاني 75 جنيها، والثالث 60 جنيها، والرابع 50 جنيها، والخامس 25 جنيها، والسادس 10 جنيهات، والسابع 5 جنيهات، وأعطى الولد الذي سأله جنيها واحدا، شعر الولد بالتعاسة واغتمَّ كثيراً لأن شيخه آثر رفاقه عليه.. ابتسم الشيخ للولد وقال للجميع: “يجب أن تنفقوا ما أعطيتكم قبل يوم السبت وسيكون اجتماعنا يوم السبت في الفرن المجاور”.
في صباح يوم السبت تحلق الطلاب حول الفرن بعد أن أوقده الفرّان بانتظار وصول الشيخ. أقبل الشيخ مسرعاً وطلب من الطلاب الصعود فوق بيت النار واحداً واحداً ليخبره كل واحد ماذا فعل بالمبلغ الذي أعطاه إياه.
صعد صاحب المئة جنيه إلى سطح بيت النَّار وبالكاد استطاع الوقوف وأخذ يرفع رجلاً وينزل أخرى من شدة حرارة الأرض تحته، وقال: “اشتريت بخمسة جنيهات سكر وبعشرة جنيهات شايا وبعشرين جنيها عنبا وبخمسة عشر جنيها خبزا…. وهكذا، أخذ يسرد ما اشترى بالمال وهو يرفع رجلاً وينزل أخرى ولم ينتهِ إلا بعد أن تورمت قدماه وكاد يلفظ أنفاسه من شدة الحرارة والعطش”.
صعد الثاني وفعل مثل الأول، ثم صعد الثالث ثم الرابع وهكذا. حتى جاء دور الولد الذي أخذ جنيهاً واحداً فصعد مسرعاً إلى ظهر الفرن وقال: « اشتريت ربطة بقدونس بجنيه، ونزل من فوق الفرن.. ووقف أمام الشيخ منتشياً بينما كان البقية بين جالس ينفخ على قدميه وآخر يبردهما بالماء. توجه الشيخ نحو الولد بجانبه وقال: “يا أولادي هذا مشهد مصغر عن يوم الحساب، فكل إنسان سيُسأل على قدر ما أعطاه الله…. سُرّ الولد الذي سأل الشيخ وعلم أنَّ شيخه لم يكن ليفضل رفاقه عليه”.