أقلعت الطائرة من بيروت متجهة غرباً وكنتُ ضمن وفد عسكري إلى مصر . فجلست أراقب عبر النافذة مداد البحر ، منتظراً بشوق رؤية تلك القطعة من العالم ، المُكتنِزة بالأسرار والأساطير .
أستقبلنا الضباط المصريون على أرض المطار ، وانتقلنا بعد استراحة قصيرة إلى مقر إقامتنا ، في فندق جنوب شرقي القاهرة . ورغم لطافة طقس الربيع ورونق المكان ، لكن الرمال من حولك تُنبئك أنها أرض صلبة عصية على الغزاة ، وتُذكّرك بأبطال هزموا هولاكو ، وسحقوا أسطورة جيشه في «عين جالوت » .
كان احمد ضابطاً شاباً ، اختارته القيادة المصرية لمرافقة الوفد في جولاته ، فهو بالإضافة إلى وسامته وذكائه الحاد ، يتمتع بحس الفكاهة ، وعلى قدر عالٍ من اللباقة وحسن الأخلاق ، التي يتميز بها الضباط المصريون ، فعندما يُحدثك ستشعر أن لديك أخاً وصديقاً تعرفه منذ زمن .
بعد اجتماعات العمل والزيارات الرسمية ، كان لنا حصة في الجانب الثقافي . فزيارة مصر لا تكتمل أذا لم تسافر معها عبر الزمن ، وترى بأم العين ما لن تجده في بقاع العالم الأخرى . فهذه درة القارة السمراء ، حلم الإسكندر وأرض الآلهة والمعجزات .
دخلنا قاعة تشرين ، ولساعة من الوقت كنّا نعيش مع أبطال الجيش الذي حطم خط برليف وبُناته ، في يوم واحد ؛ إنها ملحمة بطولة حيّة ، سجّلها رجالٌ نذروا أنفسهم في خدمة الوطن ، وأبدع الفنانون في تصويرها ، في بانوراما مدهشة ، حتى أصبحت تحاكي ملحمة جلجامش روعةً وتشويقاً .
بدايةً ترى نسور الجو يفاجئون العدو في عمق دفاعاته ، فيرتعب جنوده لمجرد سماع صوت الطائرات المصرية فوق رؤوسهم ، رجال الضفادع يُعطلون الألغام وأنابيب الغاز في قناة السويس ، مدفعية تُمطِر المواقع والتحصينات على الضفة الشرقية ، صواريخ تصطاد طائرات العدو كأنها حمائم وادعة ، ورجال الدبابات والمشاة يعبرون القناة ويندفعون باقصى سرعة الى داخل سيناء ، فتنهار أسطورة الجيش الأسرائيلي الذي لا يُقهر ، ليصبح مهزوماً بلحظات ، ويفرُّ جنوده على غير هدى وفي كل اتجاه ، يختبئون ويرفعون علماً ابيض علامة الإستسلام .
المحطة الثانية كانت في ضيافة ابو الهول . فهناك يختلط عليك الأمر ، هل هذا تاريخ مصر ، أم مصر هي التاريخ ؟ .
عبرت بنا الحافلة إلى الجيزة ، فوق أطول نهر في العالم على «كوبري عباس » ، فبدت المياه مُتعبة تتهادى كأنها ترتاح من عناء السفر المُضني بعد رحلتها من أعالي إثيوبيا والسودان . وإلى اليمين يُطالعك «أبيس» بقرنيه الجميلين ، يحرس دلتا الخصوبة والخيرات المترامية شمالاً حتى ضفاف المتوسط .
وعندما تصل إلى الأهرام ، تراها اصطفت لاستقبالك على خط اصطفاف الشمس والأرض والقمر ، مع بداية السنة عند قدامى المصريين ، أو كما يعتقد بعض الباحثين أنها تُشير إلى إضاءة نجوم النطاق (حزام الجبار) . وهي تحكي لك قصة بدء التكوين ، وسر الأسرار الدفين تحت آلاف هذه الصخور ، التي نحتتها يد العمالقة ، وجعلتها تنطق بعظمة شعب ، رسم الغازاً سيجهد العالم لفك رموزها آلاف السنين .
يسمح لك خوفو بالدخول إلى غرفة الناووس ، لكن سيُجبرك أن تحني رأسك قبل الدخول من هذه الكوة الصغيرة ، لتسير في ممر ضيق داخل الهرم ، بما يشبه العبور من الحياة ألى الموت . وفي الداخل تعتقد أنك في مواجهة حارس الجبّانة «أوزير » ، وإذا نظرت إلى سقف الغرفة ، ستعلم كم هو كبير وثقيل فوق رأسك ، وزن وخفايا هذه الصخور المصقولة بإتقان ، حيث استقلّ الإله رع مراكب الشمس ، وأبحر تُجذّف له النجوم ، إلى العالم الآخر للقضاء على الشر .
تركنا فراعنة الأهرام وسرنا على ضفاف النيل ، هُنا حيث مشت إيزيس تجمع قِطع حبيبها أوزيريس . وعُدنا إلى داخل القاهرة نبحث في شوارعها الضيقة ، في شارع المُعز ؛ من الأزهر الى جامع الأنور وقصر الحاكم ، كل حجر يُخبرك ألف حكاية ، ويقول لك : هل جلست يوماً إلى مائدة ملك الآلهة آمون ؟ هل تذوقت حنطة يوسف ؟ هل شربت ماء الخصوبة من النيل ؟ وهل قرأت كُتب دار الحكمة ؟ هل حللت طلاسم سيا إله الذكاء ؟ سيلزمك شهورٌ وسنين للتعرّف إلى مصر ، ومَن لم يزُر هذه الأرض سيبقى جاهلاً نصف العالم أينما ذهب ومهما جاب من بلاد وأصقاع .
ما زلت أذكر الكثير عن أرض الآلهة تلك ، وعن جيش عظيم حمل هموم أمة بكاملها ، وحمى مجد مصر وشعبها ، وسيبقى سياجها ودرعها الحصين ، والأمين على مستقبل ابنائها . وستبقى تلك الزيارة في البال ، وهؤلاء الأخوة أحبتي ، ذكرى طيبة لا تقوى عليها السنين .