أينما سرتَ على دروبِ القرية كانت تُطالعُك دوالي العنب ، وقلّما يخلو منها حقلٌ أو مكان . فحتى وإن لم يكن الحقل مخصصاً للكرمة ، وتم غرسُه بأشجارٍ أُخرى ، ستجِدُ حتماً في إحدى زواياه عريشةً تسلّقت شجرةَ بطمٍ أو لوزةً او جذعاً يابساً ، وكأنها تبحث عن قطرات الندى القادم من السماء ، مع أمواج الضباب الزاحف في الصباح الباكر ، عبر حنايا الأودية والوهاد المحيطة .
وما أن يطرقَ آبُ الأبوابَ ، حتى تتدفقُ الخيراتُ ، وتضجُّ الكرومُ بأصواتِ الزائرين . ولو دخلتها مع الفجرِ ، ستجدُ العصافيرَ فَرِحةً جَذْلَى ، تُزاحِمُك على تينةٍ هُنا أو داليةٍ هُناك . وما تكادُ الشمسُ تُرسلُ خُيوطَها ، وتُعانق ألوانُها حبيباتِ العنب ، حتى تتلألؤا أنواروها على الأغصان ، وترسم لوحةً طبيعيةً ، تُذكِّرَك بعذوبة فيروز وهي تغنّي قصائد جبران «والعناقيدُ تدلّت كثُرياتِ الذهب» .
«الصيف ضيف» عبارةٌ لطالما رددها أهلُ القرى ، للتعبير عن شعورهم بانقضائهِ السريع ، وهو تعبيرٌ يحملُ في طياتهِ حسرةً على جمالِ هذا الفصلِ الوافرِ الخيرات . وما أن يحِلَّ عيدُ الصليب في أيلول ، حتى يضرِب المزارعون موعداً مع قِطاف العنب ، ونقلهِ الى المعصرة لصناعة الدبس .
هناك على سفح التلة قبالة قريتنا ، وقفت سنديانةٌ منذُ مئات السنين ، تُحاكي التاريخَ وتُصاحِبُه ، حتى أصبح قطرُ جذعِها يزيدُ على ثلاثةَ أمتار . واستفاد بعضُ المزارعين من فيئها الوافي ، وبنوا معصرةً حجرية ، ما زال لنا جزءٌ من مُلكيتها .
تضمُّ المعصرةُ أحواضاً لتكديس العنب وعصرِه ، وأجراناً حُفِرت في الصخر لجمعِ العصير ، وخلطِه مع قليلٍ من التُرابِ الأبيض ، كي يترسّب طعمُه الحامض ، ثم يُصفّى ويُنقل الى الخلقين . وهناك يبدأُ رحلته مع النار ليل نهار حتى يَنضُجَ ويُصبحَ دبساً لذيذَ المذاق .
لا يُمكِنُ طبعاً لشخصٍ واحد ، أن يقومَ بهذا العملِ الشاق منفرداً . فهنا التعاونُ إلزاميٌ ، لا بديلَ عنه ، فإذا أردت أن تعصُرَ العِنب ، وجبَ عليك الجهد المشترك مع الآخرين ، فوحده التعاون يُؤتيك دبساً ، وهذا هو قانون المعصرة لا يمكنك خرقه، بل يُفيدُك ويُعطيك درساً للحياة .
وأمّا العمل الأصعب فهو «عرسُ الجرس» ، فبعد دهس العنب ، يتم جمعه كومةً واحدة ، وتُوسدُ عليه بِلاطةً كبيرة ، وفوقها تُوضعُ خشبةً طويلة، يُثبُتُ عقَبُها في كوّةٍ داخل جدار الحوض ، وفي رأسِها الآخر يُعلّق الجرسُ ، الذي يزن قرابة خمسين رطلاً (١٢٥كلغ) ، فيُشكّلُ ما يُشبه المكبس ، يضغط على العنبِ لاستخرجِ آخِرَ نُقطةٍ منه .
الجرسُ عِبارة عن صخرة دائرية الشكل ، مثقوبة في الوسط ، بما يكفي لدخول جذع الخشبة ، التي بعد وضعها فوق كومة العنب ، يكون ارتفاعُها حوالي متر ونصف عن الأرض تقريباً . ويحتاجُ رفع الجرس وتعليقه على الخشبة قوة كبيرة ، جعلتهُ مسرحاً يتبارى فيه قبضاياتُ القرية ، فمن يستطيعْ رفعَه وتعليقَه منفرداً ، ينالُ شهادة التقدير ، ويدخل اسمه في سجلِّ الأبطال .
ليس قليلاً عددُ أولئك الشجعان الذين فعلوا ذلك ، لكن ابا سعيد كان أشهرهُم ، فهو يفوق طولهُ المترين ، وكل ملامِحه فيها ما يكفي من الضخامة ، التي أكسبتهُ القوة والمهابة ، وتكاد عند مصافحتهِ تشعرُ أنك تضعُ يدك في المذراة على البيدر ، وستلاحظُ حتماً الفارقَ الكبير في الحجم ، وقد تلجأُ إلى الصلاة حتى لا يضغطَ على يدك وهو يُسلِّمُ عليك بحرارة .
قصدتُ المعصرة يوماً مع بعض اولادِ القرية ، وكان هُناك جمعٌ غفيرٌ ، وقد بدأت مباراةُ رفعِ الجرس . وهذه المرة يشاركُ ابطالٌ من القرى المجاورة . فجرسُ المعصرة هذا ، فاقت شُهرته حدودَ القرية لتصِل الى أقاصي وادي التيم . وتم رفعه عدة مرات ، من قِبل رجال أشداء ، لا يلين لهم عزم ، صقلت الحقولُ والأعمالُ الشاقةُ سواعِدَهم ، حتى باتت صلبة كجذوع الأشجار .
طالب الجميعُ ابا سعيد بإظهار قُدراته ، وغمز البعضُ من باب التحدي ، فالأمر أصبح بين القرى . وزاد الهرجُ والمرجُ ، وارتفعت أصواتُ النخوة ، فتقدّم ابو سعيد وحمل نديم على ضهره ، ووضع يديه الكبيرتين على الجرس ، فرفعَه وعلّقهُ في مكانه . وصاح الجميعُ «حماك الله يا ابا سعيد» .
استل سليم مزماره من مئزره فرحاً وبدأ العزف ، وعقد الشبابُ حلقة الدبكة ، وتحوّلت المعصرةُ الى عُرس فرحٍ وبطولة ، ومكان يتعاونُ فيه الجميع لإنجازِ العملِ المطلوب . تراهم يتعانقون ، يتآخون ، يتبادلون المهمات ، يضحكون ويملؤن جِرار الدبس ، من خيرات تكاد لا تنتهي . وشيخُ المعصرةَ «ابو سعيد» حاضرٌ دائماً ، لا يُرفعُ الجرسُ بدونه ، ولا يكتمِلُ العُرسُ إِلَّا على يديه .
أيامٌ تِلك انقضت وعلِقت بذاكرتي ، كأنها طيفٌ ، اشتاق إليه مراراً وتكراراً ، يُعيدني إلى طفولتي ، إلى قريتي ، إلى أهلي وأحبتي ، إلى تلك الدروبِ الملونة باسرار عتيقة ، كتبها أُناسٌ طيّبون ، مرّوا من هنا ، وزرعوها حُباً وتآخياً وطمأنينة ، لعلها تُنبت سعادة لأحفادهم من بعدهم ، بعد سنوات وسنوات في رحلة الحياة الشاقة هذه .