كنت أرى جزيرتي في جمالها، ليست كسائر القرى المحيطة بـ”النهر” فقد اختارها طائر “السُكسَاك” لتكون موطنًا له، فلا يبيض إلا على شواطئها، ولا يشعر بالأمان سوى بالطير على زروعها، وفوق شواشي أشجارها، حتى أطلق عليها أجدادنا السابقون “السُكسَاكة” تلك الجزيرة التي كانت مقصد عشاق “شم النسيم” في كل عام.. ورغم أن “نيلها” كان متوحشا، يخطف في كل “عيد نسيم” فلذة أكباد الزائرين؛ إلا أن عشقهم لـ”النيل” كان أكبر!
كانت بيوتنا من الطين، وأسِرتُنا من الطين، وأسقفنا من الجريد والخوص، لكن كان لدينا أمل أن هناك غدا أفضل ينتظرنا! بقدر قسوة الحياة حينذاك لكن كنا نعشقها بكل تفاصيلها.. إلا سالمان كان دائما لا يعشق التجربة ولا يتذوق الطعام إلا بلسان من يُحب.. ولا يرى الحياة إلا بعيون من يحب.. فحين كنت أدعوه لمشاركتنا في رحلة إلى إحدى المناطق السياحية يقول “اتفسح أنت.. ثم أحكي لي”!
وحين كانت نذكر “رحلتنا” يتحدث عنها، وكأنه كان هناك.. فأضحك حينها وأسأله كيف تصف أشياءً لم تراها يا سالمان؟! فيقول “حين ترحل عني أبعث قلبي خلفك.. فيرى ربما الذي لا تراه”!
كان “سالمان” يفوقنا في الصحة والجسم.. كنت الطفل المريض في أسرتي وكان هو الصحيح.. كان الولد الوحيد في أسرته وكنت الصغير بين أخوتي.. كان يشعر أنه لم يأت إلى الدنيا اعتباطا إنما جاء برسالة لا يعلمها إلا الله، ويشعر ها هو فقط.. فحين كنا نتحدث عن المستقبل، ويعبر كل منا عن رغبته في الالتحاق بكلية معينة، يسرح سالمان وتزيغ عيناه ويلتزم الصمت.. وحين أسأله “في كلية ترغب يا سالمان” فيقول: أنا لن أدخل الجامعة.. ولئن شئت لدخلت الطب.. لكنه شاء – ويرفع إصبعه السبابة للسماء، ثم يضحك في “ألمٍ” ويقول.. أُدخل أنتَ.. واحكي لي عنها!
مضت سنوات طفولتنا، وكذا سنوات الشباب، لكن ذكرى سالمان لم تمض هكذا.. فرغم أن طفولتنا كانت قصيرة، فإن آثارها لا تزال حاضرة.. سالمان ذلك الصديق العاشق للنهر كعشقه للصمت.. كانت كلماته قليلة لكنها كانت عميقة.. كان في هيئته طفل، لكن كان ينطق بحكمة العجائز.. كان قليل الحركة لكنه كان عميق المشاهدة..
جلسته المفضلة كانت على شاطئ النهر في لحظات الغروب.. وحين كنت أدعوه ليسبح معنا في النهر يقول: “اسبح أنت.. واحكي لي عن روعة النهر” فجمال النهر ليس في النزول فيه، بل في رؤية سريانه عبر شاطئية، كـ”شريان” يتدفق من القلب إلى سائر أعضاء الجسد.. وكأنه يخبرني أن لأعضاء الجسم على القلب “حق”.. وحقٌ على القلب أن يوفيه!
لم يكن يدرك “سالمان” حينها أنه سيأتي اليوم الذي يتعارك فيه “القلب “مع أعضاء الجسد.. ويهدد فيه القلب أن يكف عن الضخ.. حتى إن أدى ذلك إلى الانفجار! والآن حين أذكر مقولته تلك أتساءل: ماذا لو كان سالمان في “إثيوبيا”؟ ربما ما أقدمت إثيوبيا على “جريمة السد”!
لم أنس أبدا اليوم الذي ذهبنا فيه إلى “مدير المدرسة” نشكو إليه عدم نظافة دورات المياه، وأن فصولنا مزدحمةٌ، عديمة التهوية.. ذهب معنا “سالمان” لكنه آثر المشاهدة عن قُرب.. وحين رفض المدير سماع شكوانا، وتحدث إلينا بصوتٍ غليظ.. شَدَنِي سالمان من يدي، وقال لا تُرهِقُ نفسك بالحديث إلى مسئول، فلم يخلق الله لمسئول “أُذن”! وأن الإنسان كلما أُغلِقَت “أُذُنَاه “طال “لِسَانُه”.. فقلت له غاضبًا: إذًا.. متى يسمع المسئولون شكوى العوام؟! فقال سالمان: حين يرحلون عن كراسي السُلطة!
كنا نَهابُ “الصمتَ “الذي كان فيه، ونعشق “الحكايا” التي كنا نقرأها في عينيه الحيارى.. كان لا يشاركنا في لعب أو سمر.. وحين كنت أدعوه للمشاركة يقول: “إلعب أنت.. واحكي لي عن متعة اللعب” فأنا هنا حارس الأرض من البَوَار.. قلت له: وما أرضك يا سالمان؟ قال: “أمي” فـقلبها يجِفُ حينَ أمرض.. ويبورُ حين أغيب! فقلت له: لكنَّ الأرض إذا جَفَّت ماتت.. فقال: كلا.. يموت البشر.. لكن الأرض يا صديقي لا تموت!
كانت علاقته بـ”أُمهِ” علاقة فريدة.. مُدمِنٌ للجلوس أمام عينيها.. ورغم أنه كان “فتىً” فرعًا بيننا، إلا أن “أُمه “كانت حريصة على أن تضع “الطعام” على حِجرِها، وتُلقِمَهُ “الطعام “لقمة بلقمة.. فكنا نغار من هذه العلاقة، وفي أحايين كثيرةٍ كنا نسخرُ منها.. فيرد سالمان “دعوني أشبع من “وجه أمي”.. فلا أعلم متى الملتقى! فأقول له: تقصد متى الرحيل.. فيضحك ضحكته الحزينة، وينظر إلى السماء في شجن، ويقول” بل ومتى المُلتقى”!
لقد كان لسالمان “أختا” وحيدة.. متزوجة من أحد أقاربه “المتشدقين” بالدين والمتفيقهين.. يعتبرونه أهل القرية “نموذجا” للتدين في حين كان يعتبره سالمان “شيطانًا أعمى”.. وذات مرة مرضت أرض سالمان – أقصد أُمُه – فطلب سالمان أخته لرعايتها، فرفض زوجها ومنعها من عيادة أمها، وحين سئل عن السبب تعلل أنه لا يطيق أمها، وأن ابنها أولى برعايتها، وعلى الزوجة إطاعة زوجها، وإلا فإنها تخالف شرع الله، فخالفته الزوجة وانساقت خلف فطرتها السليمة.. ملبية نداء الفطرة والطبيعة، وانكفأت على رأس أمها المريض!
فجُنَّ جُنونُ زوجها المهوس بـ”الدين”، وجاء مهرولًا إلى بيت سالمان، يطلب عودتها، فرفض سالمان مدافعا عن إرادة أخته “المغبونة” وقال له: أمها مريضة، وابنتها أولى برعاياتها.. فقال له: الزوجة الأولى هي “طاعتي” بالقرآن والسنة.. فقال له الحاضرون: وأين صلة الرحم يا الرجل؟! فأجابهم: ربما إن منعتها عن وصل الرحم لا أكون “مُحسِنًا “لكنها إن لم تطعني فإنها أمام الله عاصية!
واستدل على صدق قوله بقصة الزوجة التي جاءت إلى “النبي” صلى الله عليه وسلم تشكو من قسوة زوجها، الذي منعها من زيارة والدها المريض، وقال لها النبي “أطيعي زوجك.. وحين مات أباها قال لها صلى الله عليه وسلم: لقد دخل أبوك الجنة بطاعتك لزوجك.. وأخذ يردد الزوج بصوت مرتفع” لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق”!
فطلب الحضور الزوجة بالعودة مع زوجها لكن سالمان اعترض.. وقال أي شريعة تلك التي تحض على منع الابن من بر والديه وأي إنسانية تلك يا رجل، ولقد زوجناك أختنا بشرع الله.. ولم نملكها لك ولم تنازل عنها لك.. ما الذنب الذي اقترفته أمي سوى أنها زوجتك فلذة الكبد؟ّ فقال لها الزوج إن إذا تعترض على شرع الله.. أما أنا فلا.. وقام غاضبا يشد الزوجة من شعرها للخروج.. فوقف له سالمان محاولا أن ينهره، فزجره الزوج بعنفٍ، وأخرج خنجرا ودبَّه بقوةٍ في صدر سالمان!
فسقط سالمان على رجل أمه وأمسك بيدها ونظر إلىَّ وقال: ألم أقل لك أن الأرضَ لا تموت.. احكي للناس عن “سالمان “الفتى الذي قتله “فَهمٌ خاطئ” لحديث نبوي شريف.. أو كان ضحية لحديث نبوي ضعيف.. فقلت له باكيا: وماذا عن دنيانا التي حلمنا بها يا سالمان؟ فقال وهو يلفظ النفس الأخير: عش أنت.. وحين نلتقي.. احكي لي عنها!