و..لا أزال في الطابق السادس بـ«الأهرام».
من هنا، من هذا المكان.. صدرت أعمال رائعة ومروعة لسكان هذه الطابق الفكري العالي، كنت شاهد عيان على تجلياتها وتداعياتها، بل مشارك في استثمار قوتها، توفيق الحكيم شغل الدنيا في مطلع الثمانينيات بمقالاته الأربعة ( حديث مع الله ) وهو العنوان الذي كان يفترض أن يواصل تحته كتابة حديثه مع الله تعالى، لكن ما إن صدر المقال الأول في صفحة من أوراق توفيق الحكيم ، حتى قامت الدنيا من قبل من كانوا يتوهمون أنهم المتحدثون باسم السماء، ولم تقعد إلا بعد أن غير الحكيم عنوان السلسلة إلى ( حديث إلى الله ).
كانت كتابة الحكيم ومضات من قلم صوفي وقلب على وشك الصعود إلى الرفيق الأعلى، يتحدث إلى ربه العظيم بطريقته الخاصة.
وقبل الإبحار الوجداني في هذه الأحاديث الأربعة التي انطلقت من الطابق السادس بالأهرام ، تجدر الإشارة إلى المعركة التي دارت رحاها وشارك فيها يوسف إدريس ود. زكي نجيب محمود، تعاطفًا مع الحكيم، ومواجهة مع الشيخ محمد متولي الشعراوي ، وكنت أنا طرفًا صحفيًا إذ نشرت وجهة نظر الحكيم عبر جريدتنا (الأخبار)، وأراد يوسف إدريس أن تجري مناظرة بينه وبين الشعراوي وزكي نجيب محمود والحكيم، لكن الشعراوي رفض قائلاً: إنه يتحدث وحده، معلقًا على آراء العمالقة الثلاثة، وبالتالي رفضوا فهذه ليست مناظرة، وإنما كما قالوا هي «استبداد بالرأي».
الدلالة العظيمة التي استدعيها أن المجتمع انشغل بهذه الكتلة السردية الفكرية من ثلة من رجالات الفكر، كل منهم له وجوده وقلمه، وله جمهوره وعالمه، وله قراؤه ومتابعوه، وله مريدوه ومحبوه.
المجتمع يتحرك مع مفكريه.. وهذا مشهد عظيم، كم افتقدناه بعد رحيلهم، ولا نزال نفتقده، رغم ثورة الاتصالات وثروة المعلومات، وغواية الميديا وجبروتها..!.
و..لا أزال في الطابق السادس بـ«الأهرام».
فكر على واقع.. صحافة لها تأثيرها.. ثقافة تغير.. وفي يدها عصمة المجتمع، لكن عن أية ثقافة نتحدث؟ وعن أي مثقف نومئ؟ وأي تثقيف نريد؟ إنه لا يحق لأحد، أي أحد، أن يقول أنا الثقافة، وأنا الجماعة التي تحتكر الفعل الثقافي، وتهمش الآخرين، وتقصي التخالف في الرأي والمخالفة في الرؤية، هذا مستحيل، بالعقل والمنطق والحجة والبرهان، كما يحدث الآن للأسف.
لم تكن هناك ذاتية ولا نرجسية بل توجد الذات الممتلئة بذوات الآخرين، مصداقًا للمنظور الذي يرى كل الشواهد التاريخية، والمشاهد الإنسانية، تؤكد أن التحولات الكبرى في حياة الشعوب تمت بالفكر والثقافة، وكل الومضات الساطعة في التاريخ الإنساني اشتعلت من مصابيح الثقافة والمثقفين، والتي أثارت علامات استفهام وأنارت علامات التعجب، تمت على أيدي المثقفين أو ـ في أضعف الظروف ـ على ضوء مصابيحهم الفكرية التي أنارت كثيرًا من الدروب المعتمة، فاستنارت بها العقول السائلة والمسئولة! سواء في حياة حملة المشاعل أو بعد رحيلهم، بل إن كثيرًا من المصابيح الفكرية لاتزال مشتعلة ومتوهجة، على الرغم من غياب مشعليها وموقديها منذ ألوف السنين، واسألوا التاريخ الحقيقي.. لا التاريخ المزيف.. المدون حسب الأمزجة..! التاريخ الذي هو أكبر مصنع لتكييف «الهوى».
وكما أقول دائمًا إنه ساعة أن تنطفئ مصابيح المفكرين أو حتى تبهت أنوارهم، تتخبط الحياة، وتنقبض ولا تنبسط.. ويصدر الحكم على هذه الفترة أو تلك بالتصلب.. والإعدام الحضاري.. كل فترة من الفترات التي همشت دور المثقف في المجتمع، كانت هشة ومهزوزة، فالمثقف الحقيقي هو قرن استشعار لمجتمعه وعالمه، وحين يتكسر هذا القرن أو يتقصف، تتوه مؤشرات المجتمع وترتفع وتنخفض وتتحرك بعشوائية ذات اليمين وذات الشمال، حتى إن نحل صوتهم، فلن يضيع في صخب آبار الصمت والتجاهل واللامبالاة، ولن تتمكن أجنحة الظلم والظلام والإظلام من أن تفرد على هذه المساحة أو تلك من التاريخ، وتتحرك الخفافيش وراء الأقنعة.. وتهترئ الوجوه، وتصبح الأقنعة وجوها حقيقية!
أواه.. كانت الصحافة ذاكرة الأمة.. واسألوا هذا الطابق السادس بالأهرام الذي ما زال فيه أحدق وأدقق وأحلق…
و.. لا أزال في الطابق السادس بـ«الأهرام».
وأتذكر أساتذتنا هؤلاء وأحاديثي معهم عن كون «المعرفة سلطة…» طبقًا للفيلسوف «فرنسيس بيكون» بمعنى أن سلطة المثقف هي معرفته ووسيلته الإبداعية لنشر ثقافته وبسط سلطانه. إذن.. المعرفة قوة أو سلطة، غير أن سلطة المعرفة تختلف عن السلطة السياسية والعسكرية من حيث التأثير والسلطان والجبروت، أما المثقف الذي يحترم نفسه وثقافته، فإنه يضع نفسه بعيدًا عن الاستخدام الوظيفي لثقافته، لأنه يعرف أن المثقف الذي لا يحترم معرفته وثقافته.. يتنازل عن سلطته بثمن بخس.
ولذلك فإنه يجب أن يبقي يده على الزناد، لإطلاق كلمة الحق كلما شعر بضرورة ذلك، وكلما كان الأمر واجبًا حتى لا يتخلى عن دوره، وتعززه الأدبيات السياسية والفكرية العظيمة.
تمثل شخصية المثقف دورًا ووظيفة أكثر منها صفة، وعندما تذهب الوظيفة قد تذهب الصفة، لاسيما أن المثقف يقوم بدور لم يكلفه به أحد، ويتخذ قرارات مهمة على عاتقه ودون إحساس بالمسئولية، وهدفه «يتجاوز مجرد بناء حركة اجتماعية إلى إنشاء تشكيل ثقافي كامل مرتبط بهذه الحركة» والمفكر يقوم بهذا الدور استنادًا إلى مبادئ كلية شاملة، طبقًا لإدوارد سعيد في تمثيلات المثقف، فالمثقفون عمومًا “يقفون علي الخشبة ليشهدوا (بالحقيقة) أمام الناس”، طبقًا لأنطونيو جرامشي في دفاتر السجن. ومن ثم فالمثقف يدرك ويعي التعارض القائم فيه وفي المجتمع، بين البحث عن الحقيقة العملية، وبين الأيديولوجيا السائدة، وما هذا الوعي سوى كشف للنقاب عن تناقضات المجتمع الجوهرية، وهو الشاهد على المجتمعات الممزقة التي تنتجه، لأنه يستبطن تمزقها بالذات، وهو بالتالي ناتج تاريخي، وبهذا المعنى لا يسع أي مجتمع أن يتذمر ويشتكي من مثقفيه، من دون أن يضع نفسه في قفص الاتهام لأن مثقفي هذا المجتمع ما هم إلا من صنعه ونتاجه.
و.. لا أزال في الطابق السادس بـ«الأهرام».
ورائعة هي حوارية توفيق الحكيم إلى الذات العلية… ولنا معها وقفتنا القادمة.