ولا أزال في الطابق السادس بـ «الأهرام»
كأن هذا الطابق مثل البلورة الكريستالية، تستطيع أن تراه من أية زاوية، دائري الرؤية هو، حسب منظورك يعطيك، وطبقًا لما تريد لا يبخل عليك، به تفيض الذاكرة، وفيه تطول الوقفة، وتتوالى الذكريات متتاليات، والذكريات ليست فقط صدى السنين الحاكي، على حد تعبير أمير الشعراء أحمد شوقي؛ بل هي أيضًا طاقة للتواصل بين «أمس واليوم وغدًا» كما كان يقول أستاذنا إحسان عبدالقدوس ، أحد سكان الطابق الخامس الموصول بالطابق السادس، مدا فكريا وامتدادا ثقافيا في «متحف الخالدين».
وأبدًا.. ليس استدعاء أرواح العمالقة استعادة لذاته، بقدر ما هو رسالة لأبناء اليوم على الساحة الصحفية والثقافية والسياسية الذي يمثلون تيارات اليوم – أو يفترض ذلك – وهذه إشكالية أخرى مستعصية على الحل، أو قل هي إجابة تبحث عن سؤال، أكثر من سؤال يبحث عن إجابة، لا أقول أبناء الجيل، ذلكم أن «فكرة الجيل» غير موضوعية، وهنا أتذكر كلمة ل يوسف إدريس «لا يوجد شيء اسمه جيل، لكن هناك نهر وتيار أدبي مستمر وممتد، كل واحد يسبح في نهر الزمن الأوسع، ونهر التطور والتغيير الاجتماعي، وصعب جداً أن تقول هذا الأديب جيل الخمسينيات وهذا جيل الستينيات، وهذا يعبّر عن الجيل، فهذا التقسيم لا يصلح لوصف حقيقة أدبية وعلمية وفنية، لكنه يصلح فقط لوصف حقائق الجغرافيا»، وسيكون يوسف إدريس بطل حلقة من هذه الحلقات، ليس فقط من خلال رسالتي في الدكتوراه والماجستير من جامعة القاهرة عن سردياته، بل أيضًا من خلال «حزنه النبيل» على أنه لم يحصل على جائزة نوبل بدلا من نجيب مجفوظ .
وإني لأعرف السبب الموضوعي لذلك الحُزن والحَزَن أيضا، وسأذكره فهو ليس المألوف والمتداول عن هذه الواقعة، (وشاهدتي أيضًا الباحثة الفرنسية «سيجريد كالي» التي جادلتها في حوارية نشرتها آنذاك بجريدتنا «الأخبار» بعد زيارتها لكاتبنا العظيم يوسف إدريس في مكتبه بالأهرام، ممثلة للجنة جائزة نوبل عام 1982).
ولا أزال في الطابق السادس بـ«الأهرام»
تجادلنا قبل أيام كمجموعة من عشاق صاحبة الجلالة، حول قدرة ومقدرة أستاذنا محمد حسنين هيكل ، على استقطاب كل هذه الرموز الفكرية على مختلف أطيافها، وتباين اتجاهاتها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار – مع التحفظ الواسع على التصنيفات المذهبية الضيقة – كنا نؤكد ما كنا نذهب إليه ونحن في عنفوان الشباب، أن «الأستاذ» أراد أن يضفي ملامح لشخصية «الأهرام» كمدرسة لابد لها من بصمة مائزة وتوقيع خاص، وذكرنا أحدنا بما شهد به الزميل أنور عبداللطيف مدير تحرير «الأهرام إذ حكى له هيكل أنه عندما تسلم (الأهرام) كانت هناك مدارس صحفية تتفوق على (الأهرام) في جرأة التناول مثل (أخبار اليوم) التي كانت تتفوق في مجال الخبر، و(دار الهلال) التي كانت تهتم بالصور، أما (روزاليوسف) فكانت مدرسة للكتابة الساخرة بالقلم والريشة (….) وقد تأكَّد تحقيق هذا الاتجاه في الدور السادس في مبناه الحديث الذي افتُتِح عام 1968 وزاره الرئيس عبدالناصر في فبراير عام 1969، وعندما جاء الرئيس السادات في الاحتفال بمائة سنة اجتمع مع سُكّان (السادس)» ومن هنا أيضًا جاءت فكرة الدور السادس بشكل مدروس ومقصود، فاستقطب عددًا كبيرًا من الكُتّاب والأدباء والمفكرين والنقاد لتوطين المثقفين في (الأهرام)».
ولا أزال في الطابق السادس بـ«الأهرام»
وإني لأطمح من أبنائنا طلاب الدراسات العليا في كليات الإعلام أن يعكفوا على تلك الحقبة التي ازدانت الأهرام بعطاءاتها الفكرية التي تمايزت بلغة الأعماق البعيدة، يدرسون معطياتها، وكيف استطاعت الصحافة في بعدها الفكري أن توائم بين التصورات والتصديقات في التعامل المجتمعي، بين التنظير والتطبيق، بين القول والفعل، بين القلم والألم والأمل والحل الذي كان يتحقق على أيدي هؤلاء المبدعين وهم ينتزعون الأقنعة السياسية والاجتماعية والإعلامية، وهل ننسى ثورة توفيق الحكيم التي انطلقت من مكتبه رقم «606»، في معركته الشهيرة باسم «بيان توفيق الحكيم» الرافض لحالة اللاسلم واللاحرب في بداية سبعينات القرن الماضي، وهو ما أدى إلى طغيان الغضب السياسي على الغضب الفكري، لكن عاش الأخير واندثر الأول، وخمدت ثورة الرئيس السادات ، وبقيت ثورة الحكيم ببعدها الواعي، باعتبار أن العصمة في يد الثقافة، وأن المفكر هو الأطول عمرا من السياسي وهو الأغزر فكرا والأبقي أثر حين يطوي النسيان كل شيء.
ولا أزال في الطابق السادس بـ«الأهرام»
«من مفكرة فلان…» كان عنوان الصفحة اليومية في الأهرام يكتبها أحد العمالقة، كان بمثابة «الوتد» الذي يشد خيمة المجتمع، ذلك المجتمع الذي كان يتعرض لعواصف شتى، فكان الفكر هو الحصن الحصين للمجتمع من خلال مثقفيه ومفكريه، وفي تلك السنوات السمان لم تستطع البقرات العجاف أن تلتهم أيا من العطاءات العظيمة لأرباب القلم، ولا أن تجعل أيَّا منهم ينحني قلمه لأية سلطة كانت، وجدلية المثقف والسلطة إنما هي جدلية تحتاج وقفات.
وما كانت تقدمه الأهرام تحت عنوان ( من أوراق فلان….) جدير بالدرس والتحليل والكشف والتمحيص، إنها من أخصب الفترات الفكرية والصحفية والثقافية.. تماما مثلما كانت «يوميات الأخبار» التي كان يبدع فيها عمالقة القلم وأشهرهم مفكرنا العظيم ( عباس محمود العقاد) ومن حصاد يومياته في الأخبار أصدر أربعة كتب باسم «يوميات العقاد» هي من أعظم روائعه الفكرية التي لاتزال تخترق الزمان والمكان والإنسان، إلى اليوم وستظل إلى الغد.
فيا عشاق صاحبة الجلالة.. هل من مدكر؟!
علامة استفهام كبيرة أطرحها من هنا..
وأنا لاأزال واقفا في الطابق السادس بـ «الأهرام».