أقل ما يمكن أن يوصف به ما يجرى هذه الأيام داخل الولايات المتحدة الأمريكية من تفاعلات، سواء كانت تصنف ضمن التداعيات الناتجة عن معركة الانتخابات الرئاسية الأخيرة، التى لم تهدأ بعد، أو كانت تتجاوز هذه التداعيات إلى ما هو أكثر خطورة بالنسبة لمدى صلابة التماسك السياسى- والاجتماعى، بين الولايات الخمسين المكونة للدولة الأمريكية هو «الفوضى».
تعبير الفوضى يمكن أن يكون أقل حدة وأكثر انضباطاً من توصيفات أخرى قد يراها البعض أقرب إلى الواقع الذى يزداد تردياً يوماً بعد يوم إذ لم تكد أصداء ردود فعل الرئيس الأمريكى المنتهية ولايته دونالد ترامب على رفض المحكمة الاتحادية العليا للقضية التى كانت رفعتها ولاية تكساس تطالب فيها بإلغاء احتساب ملايين من بطاقات التصويت الإلكترونى فى الولايات الأربع المتأرجحة ( ويسكونسن و ميتشجن و جورجيا و بنسيلفانيا ) تهدأ قليلاً، حتى جاءت صدمة أخرى أشد خطراً، ولكن هذه المرة من خارج الولايات المتحدة، عبر هجوم إلكترونى غير مسبوق، استهدف القدرات الإستراتيجية الأمريكية، وتضع الولايات المتحدة أمام خطر «الفوضى».
السؤال الذى يشغل الكثيرين الآن هو: إلى أين تتجه الولايات المتحدة بعد تلاشى صدمة الفوضى هل إلى استعادة التماسك والاستقرار أم إلى التداعى والتفكك الذى تحدث عنه رئيس الحزب الجمهورى فى ولاية تكساس الأسبوع الماضى، آخذين فى الاعتبار التهديدات التى أطلقها الرئيس دونالد ترامب عقب رفض المحكمة الاتحادية العليا القضية التى رفعتها ولاية تكساس ضد الولايات الأربع المذكورة خاصة قوله إن «القتال بدأ للتو».
الإجابة عن هذا السؤال المهم تتوقف أولاً على ما سوف يحدث خلال الأسابيع الأربعة المقبلة من الآن حتى يوم العشرين من يناير المقبل موعد الانتهاء الرسمى لولاية دونالد ترامب وبدء ولاية جو بايدن، من منظور هل سيحدث فعلاً انتقال سلمى للسلطة أم لا؟ وهل يمكن أن يورط دونالد ترامب إدارة بايدن فى حرب مع إيران لإرباك حسابات بايدن بالنسبة للعودة إلى الاتفاق النووى مع إيران أم لا؟ وسوف تتوقف الإجابة أيضاً عن كيفية التعامل الأمريكى مع الخطر القادم من الخارج الذى اعتبره كثيرون أنه «تهديد وجودى» للولايات المتحدة المتمثل فى الهجوم الإلكترونى الذى تعرضت ومازالت تتعرض له الولايات المتحدة من طرف خارجى، وهو الهجوم الذى جرى اعتباره «أكبر وأخطر هجوم إلكترونى» استهدف الولايات المتحدة واخترق وكالات حكومية أمريكية شديدة الحساسية من بينها إدارة الأمن النووى ووزارات الخارجية والدفاع والخزانة والطاقة وشركات خاصة مرتبطة بالحكومة الاتحادية. هذا الهجوم يعتبر فى ذاته تهديداً خطيراً، خصوصاً أنه لم يعلن عنه إلا قبل الأسبوع الفائت فقط، فى حين أن المعلومات تؤكد أنه بدأ منذ مارس 2020، لكن ما هو أخطر من ذلك هو الانقسام الحاد داخل دوائر صنع القرار السياسى فى الولايات المتحدة حول هذا الاختراق، سواء حول مدى خطورته أو حول الجهة المتسببة فيه. فبينما هوَّن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب من شأن هذا الهجوم وخطورته وقال إن « قضية القرصنة الإلكترونية ليست ضخمة كما تدعى وسائل الإعلام المزيف»، كانت ردود فعل مسئولين أمريكيين ديمقراطيين وجمهوريين على حد السواء، شديدة الانفعال والتوتر عكس موقف الرئيس. فقد اعتبر النائب الديمقراطى « جيسون كرو » أن «خصماً خطيراً للولايات المتحدة وصل الآن لأنظمة الدفاع والاستخبارات وحفظ الأمن والمؤسسات المالية»، أما السيناتور الجمهورى ميت رومنى فقد اعتبر أن الهجوم «يمثل تحليق قافذات روسية فوق بلدنا بأكمله، بشكل متكرر، ودون أن ترصد».
الانقسام الأخطر كان حول الطرف المسئول عن هذا الاختراق. فعلى الرغم من أن جهة تحقيق مسئولة لم تحقق فى الأمر ولم تصدر قرار اتهام له اعتباره، فإن موجة الاتهامات كانت بحق روسيا، بدأها الإعلام، وبعدها انخرط السياسيون، وفى مقدمتهم وزير الخارجية مايك بومبيو، فى حين وقف الرئيس دونالد ترامب وحده فى الطرف الآخر يدافع عن روسيا ويوجه الاتهام للصين.
فقد حمَّل وزير الخارجية مايك بومبيو روسيا مسئولية الهجمات الإلكترونية وقال فى مقابلة إذاعية (مساء الجمعة 18/12/2020) إنه «يمكننا القول بوضوح شديد إن الروس انخرطوا فى هذا النشاط»، مضيفاً أنه «لا يمكن التعليق على تفاصيل الهجمات الإلكترونية لأنها لا تزال قيد التحقيق، وستظل بعض التفاصيل سرية»، لكن الرئيس دونالد ترامب خرج ليبعد عن روسيا أى اتهام وقال فى تغريدة له إن «الاتهام يوجه دائماً لروسيا، لأن وسائل الإعلام، ولأسباب مالية، تخشى الإشارة إلى الصين التى يمكن أن تكون هى المسئولة»، وعاد فى تغريدة أخرى ليوضح أكثر ويقول إن من يقف وراء الهجمات الإلكترونية «ليست روسيا بالضرورة ، وإنما هى الصين على الأرجح».
انقسام فى التقييم يستند على قاعدة راسخة «من عدم اليقين» وهذه هى الكارثة الكبرى بالنسبة لدولة توصف بأنها الأقوى فى العالم ولكنها باتت منكشفة إلى درجة عدم القدرة على التعرف على من اعتدى عليها واخترق أجهزتها الأمنية والإستراتيجية والمالية، الأمر الذى يفاقم من التداعيات التى يمكن أن تترتب على ذلك.
فى ظل الصراعات والانقسامات الداخلية التى تزداد حدة يوماً بعد يوم. فقد أثار نفى ترامب التهمة عن روسيا سخط عدد من خصومه فى الكونجرس الذين كانوا اتهموه من قبل بالتواطؤ مع موسكو لمساعدته فى كسب انتخابات الرئاسة عام 2016. وكان الديمقراطيون فى الكونجرس أكثر حدة فى الهجوم على ترامب. فقد وصف النائب الديمقراطى آدم شيف رئيس لجنة الاستخبارات فى مجلس النواب نفى ترامب التهمة عن روسيا بأنها «خيانة أخرى فاضحة» وأن تغريدته «تبدو وكأنها كتبت فى الكرملين».
أسئلة الارتباك تؤصل لسيناريو الفوضى فى حين أن الصين وروسيا تتقدمان بثبات لفرض نفسيهما شريكين فى قمة النظام العالمى، وهنا يفرض السؤال الصعب نفسه: هل ستقتصر ظاهرة «الفوضى» و«الارتباك» على الداخل الأمريكى أم يمكن أن تنتقل إلى النظام العالمى كله لتبدد طموحات التأسيس لنظام عالمى متعدد الأقطاب أكثر عدالة، إلى نظام لا يحكمه غير الفوضى؟