قال غبطة البطريرك الراعي في عظة الميلاد: «ليس عندنا حكومة، من دون أي مبرر سوى النيات الخبيثة التي تتسلل وتهدم، مثلما فعلت تلك الحية القديمة…
لا يسعنا القول سوى أن هذه الجماعة السياسية، إنما تتولى إدارة دولة عدوة وشعب عدو.
تعلمون أن مسؤولياتنا التاريخية والوطنية، دفعتنا إلى القيام بمبادرة، تهدف إلى حث المسؤولين على تأليف حكومة سريعا، منعا للإنهيار الشامل. ومنذ اللحظة الأولى كنّا ندرك الصعوبات الداخلية والخارجية، ووجود أخرى خفية ومفتعلة تُعيق التشكيل. لكننا أخذنا بالاعتبار مصلحة المواطنين ومآسيهم.
كنا نراهن على الضمير. وكان المبدأ ألا يتحكم أي طرف بمفاصل الحكومة خارج المساواة بين الطوائف. الشعب، ونحن معه، يريد حكومة اختصاص محصنة بوجه التسييس تتولى ورشة النهوض والإصلاح، وتعيد لبنان إلى منظومة الأمم. كنا في معرض إنتظار حكومة تصلح الدولة، لا في معرض تأليف حكومة يسيطر البعض من خلالها على مفاصل البلاد. كنا في معرض إنقاذ الشعب لا في معرض إعلان سقوط الدولة. لقد أسفنا كل الأسف لسقوط الوعود التي أعطيت لنا. فعاد تأليف الحكومة إلى نقطة الصفر. أيها المسؤولون، فكوا أسر لبنان من ملفات المنطقة وصراعاتها، ومن حساباتكم ومصالحكم المستقبلية الخاصة.»
يعلم غبطة البطريرك من يقصد بتلك الحية القديمة (سفر طوبيا ٣) التي أغوت حواء بارتكاب الخطيئة القاتلة . وبحسب الكتاب المقدس هي خطية انقياد للشر . هي خطية قبول كلام الحية وعصيان وصايا الله. هي خطية الشهوة والكبرياء والتسلط. هي خطية إعثار الآخرين. هي خطية عدم الاعتراف بالخطأ:- فكلٌ يُبرر موقفه بلا إقرار بالذنب وبلا إدانة للنفس.
هي خطية محاولة تبرير النفس وإلقاء التبعة على الآخرين.
هي خطية تغطية الخطية بأوراق التين».
حكومة اختصاصيين كما يريدها الشعب، لا يسيطر عليها أي طرف، ومن خلالها على مفاصل الدولة، ولا شرط سوى المساواة في العدد بين الطوائف.
هذا ما تم الاتفاق عليه عندما زار البطريرك الراعي القصر الجمهوري. فلماذا تم نقض الوعود، وعاد البعض إلى المطالبة بالثلث المعطّل؟ لماذ عادت الحية القديمة، ودفعت الرئيس عون لنقض الوعود، وتخييب أمل غبطة البطريرك والشعب بولادة حكومة الإنقاذ؟
لا تكفي ورقة التين لستر هذه الخطيئة طبعاً. لكن الحية لم تتصرف وحدها، بل هناك من دفعها إلى ذلك. والأسوأ من هذا هم جوقة الجهلة المطبّلين المشحونين بالضغينة، أبطال الشتائم والمراجل الذين حول التغريد إلى نعيق يومي، يطالعون به الشعب المقهور، الذي لم تلتئم جراحه التي أحدثها إهمالهم وفسادهم بعد، بدءاً من انفجار الاقتصاد، وإلى انفجار المرفأ .
ما زال الرئيس المكلّف سعد الحريري مصرّاً على تشكيل حكومة إنقاذ وطني، لكنه لن يتمكّن من فعل ذلك. وكنا قد عددنا أسباب تأخير تشكيل الحكومة في مقال سابق، منذ إعلان تكليفه. وانتقدنا البعضُ يومها، معتبراً أن الحكومة ستولد في غضون أيام. لن نكرر ما قلناه سابقاً فهو ما زال سارياً ويمكن لمن يشاء الاطلاع عليه على موقعنا.
اليوم عادت مسألة الحكومة إلى نقطة الصفر. فالرئيس ميشال عون، الذي لم يكن راغباً في الأصل بتكليف الرئيس سعد الحريري تشكيل الحكومة، يريد استخدام صلاحياته الدستورية، لفرض حكومة، يرضى عنها رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل.
لقد طالب غبطة البطريرك المسؤولين بأن يصارحوا الشعب، باسباب التعطيل وأسماء المعطلين. فكما كان هناك جرأة لتعطيل الاتفاق، فلتكن جرأة بتسمية من أفشل تنفيذه. لكن الرئيس المكلّف ما زال صامتاً، لأنه ما برح يأمل بتسوية قريبة. وهو لن يقول كل شيء، سوى في بيان الأعتذار، لكنه لم يقرر الاعتذار بعد.
في حال اعتذر الرئيس سعد الحريري عن تشكيل الحكومة، بعدما اعتذر سابقاً قبله مصطفى أديب. هذا يعني أننا لن نرى حكومة جديدة في لبنان. فالتسوية بين القوى السياسية ستكون مستحيلة، في ظل التناقضات والخلافات الداخلية والخارجية.
وإذا كان البعض ينتظر ماذا سيفعل الأميركيون، ومصير التسويات الكبرى في المنطقة، سيكون هذا الانتظار مكلفاً جداً على لبنان واللبنانيين. فارتفاع الأسعار وانهيار سعر صرف العملة الوطنية، اللذين سيتجاوزان كل الحدود بعد رفع الدعم، وزيادة الضغوط مطلع العام الجديد، سيؤديان إلى حالة من الفوضى، وثورة لن تبقى بالحجارة وإحراق الإطارات هذه المرة
يتساءل الكثيرون لماذا يغامر العهد بآخر أوراقه ؟ وماذا يمكن أن يحقق في الفترة القصيرة المتبقية له في الحكم ؟ طالما لم يحقق، سوى مزيداً من الأنهيار طيلة أربع سنوات ؟ وماذا سيربح جبران باسيل بعد؟ وهل فعلاً ما زال مقتنعاً بمستقبل سياسي باهر ؟
والجواب بسيط طبعاً فعندما لا يبقى للشخص شيء ليخسره، سيقامر بآخر أوراقه، حتى لو احترق معه الآخرون جميعهم، والشعب والوطن أيضاً .