ما دام الدستور يعاد النظر فيه فيجب أن يعرف من يتصدى لهذه المهمة أن الدستور يمكن أن تعاد صياغته كلما تغير القائمون على وضعه فنكون بإزاء دستور لكل نظام، وهو ما حدث فى مصر تماماً فقد وضع جمال عبد الناصر دساتير مصر من الإعلان الدستورى الأول حول دستور 1964 وتعديلاته، ثم جاء السادات فوضع دستور 1971 وأراده ألا يتغير من بعده فأسماه الدستور الدائم وليس فى دساتير العالم على طول التاريخ وعرضه صفة الديمومة إلا دستور 1971 ودستور العراق المحتل عام 2005 لتكريس أوضاع التقسيم ومحو العروبة التى ربطها المحتل ولقيت هوى قطاع عراقى ودول مجاورة بالصورة البشعة التى رسمها لصدام حسين وأسهم المحتل نفسه فى اعانته على رسم الصورة وقرن هذه الصورة بالطابع السنى الطائفى فى عملية تحريض دستورية بين الشيعة والسنة . وتطبيقا لقاعدة اللاحق ينسخ السابق ويمحو صفحته المعروفة فى تاريخ مصر منذ الفراعنة، فإن من الخطورة أن يرتبط الدستور بمناخ أو نظام معين أخذا فى الاعتبار أن النصوص يجب أن ترتبط بالواقع إما لتحسينه أو لتصويره أى أن النص الدستورى الذى يعاند الواقع الاجتماعى والثقافى يحرج القضاء والحكم ولا يمكنه تطويع الواقع ولذلك تصبح هذه النصوص تمرينا فى مادة الإنشاء وتعبيرا عن أحلام اليقظة للذين قدر لهم أن يصبحوا من المشرعين الدستوريين.
لكن الذى يجب أن يلتفت إليه هؤلاء المشرعون هو ضرورة معالجة الإشكالية التى كشفت عنها التجربة الديمقراطية التى عاشتها مصر منذ الإعلان الدستورى الثانى فى 30 مارس 2011 وما أعقبه من انتخابات برلمانية ورئاسية وتنصيب أول رئيس ( مدنى ) منتخب فى تاريخ مصر كلها، وكان ذلك فى تاريخ مصر صفحة ناصعة.
ثم تولى الرئيس لمدة عام، جرت فيه مياه كثيرة ليس هنا مجال تحليلها ولكنها بالقطع ستخضع لتحليلات عميقة فى السنوات اللاحقة، ووضع دستور 2012 وبدأ تطبيقه ثم قامت أحداث 30 يونيو ويوليو وأغسطس وهى الأشهر الثلاثة التى ستخضع هى الأخرى لدراسات مطولة، لكن هذه الأشهر كشفت عن الصدام الحاد بين الشرعية الدستورية والشرعية السياسية.
فقد تمسك فريق من المصريين، ليس بالضرورة من الإخوان، لأن القضية أوسع بكثير منهم ،بأن الشرعية الدستورية هى الأساس وكل ما عداها باطل وأى اعتداء عليها محظور.
ويقصد بالشرعية الدستورية شرعية نتائج انتخابات الرئاسة ونتائج الاستفتاء على الدستور وهى شرعية معتبرة لكنها شرعية لحظية تقابلها مواقف طوائف كبيرة من الشعب خلال عام التجربة عبرت عن رفضها للأداء وللدستور خارج صندوق الانتخاب والاستفتاء، أى أن صداما حدث بين الشرعية الدستورية والشرعية السياسية، وأنه كان يتعين على صاحب القرار أن يوازن بين جمود شرعيته الدستورية بمرونة فى التمازج مع تآكل شرعيته السياسية لدى الجماهير التى خرجت فى 30 يونيو، وما كان هذا الصدام ليحدث لولا أن التجربة لا تزال فى مهدها وأن الحالة الثورية لا تزال تستجيب لحركة الشارع فى أى اتجاه ما دامت هذه الحالة لم تتبلور بشكل نهائى فى مؤسسات وسياسات وثقافات وسلوكيات.
أما فى الدول الديمقراطية المستقرة فإن الشرعية الدستورية مقدسة، وإذا لم يلحظ الحاكم المحصن بالدستور وبإرادة الناخبين أن سياساته محل اعتراض واسع، فإن حسابه عندما يعرض نفسه مرة أخرى أمام الناخب فينصرف عنه مثلما انصرف الحاكم عنه حين احتج على سياساته، حدث ذلك مئات المرات وأبرز الأمثلة فى أسبانيا عندما تجاهل فى الحكومة مظاهرات الاحتجاج على مشاركة أسبانيا للقوات الأمريكية فى العراق المحتل، فأسقط الشعب هذه الحكومة سقوطا منكرا وأتى بحكومة تحقق الانسجام بين الشرعية الدستورية والشرعية السياسية، وفى هذه الحالة كان حجم الاعتراض يفوق المؤيدين لسياسات الحكومة المهزومة.
وما دامت تجربتنا ستظل هشة إلى أن يتحقق لها ضمانات القوة وأهمها اتحاد الإرادة عند الجميع على إنجاح التجربة وإعلاء المصلحة العليا للوطن ووعى المواطن الذى يبدد حالات التربص المتبادل، وإصرار المصريين على المبادئ التى قاموا جميعا لإعلائها فى 25 يناير لتظل دائما مرجعية الحركات والأنظمة والنصوص، فلا قيمة لأى ترتيب أو نظام لا يسعى إلى حماية الحريات وتحقيق العدالة الاجتماعية والحرص على تماسك المجتمع والحساسية تجاه النقد والتفاعل معه ليس بالقهر وإنما بالتجاوب مناقشة وحوارا أو انصياعا وتنفيذا فلا سلطة تعلو على هذه المبادئ التى تتصدرها الكرامة والمساواة واحترام القانون وأن يأخذ المصريون حياتهم بالجدية الواجبة.
لابد أن يلتفت الدستور إلى إيجاد حل لحالة تآكل الشرعية السياسية دون المساس بالشرعية الدستورية وتحديد وضعية الشارع والصندوق بحيث لا يحل الشارع محل الصندوق وأن يتفاعل الحاكم مع الشارع ولا أن يتكئ على شرعية انتخابه لكى لا يلقى بالًا إلى زخم الشارع.
إن ضبط حركة الشارع بالغة الأهمية فى وقت صار فيه تحريك الشوارع ممكنا فى ظل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية البائسة وتدهور الوعى والثقافة لدرجة تهدد الوطن،ولابد أن تكون هناك معايير منضبطة لقياس حجم ودلالة الشوارع ومرتبة الشارع إزاء الصناديق.
إن معاجلة هذه القضية بحل دستورى يقى المصريين الانقسام كما حدث منذ 30 يونيو، ولاشك أن هذه المعالجة تحتاج إلى خيال واجتهاد لأنها سابقة لم تعرفها النظم السياسية لأن حركة الشارع عادة تتأثر بمدى السماحة الديمقراطية للنظام القائم ولا نريد أن نعود إلى الحل الذى لجأ إليه الرئيس السابق، ولا الحل الذى حدث يوم 3 يوليو، ولا إلى الحل الذى قدمه الفريق أحمد شفيق عندما سئل عنه وهو مرشح للرئاسة، حيث قال إذا عاد ميدان التحرير احتجاجاً على سياساته وهو فى الحكم، فسوف يتركهم فى الميدان طوال مدة حكمه، فهم أحرار فى التظاهر وهو حر فى القرار، ولم يكن ذلك غريبا لأن ذلك هو منهج أستاذه ومثله الأعلى الرئيس الأسبق حسنى مبارك.