عندما بدأت ثورة يناير كان الثوار يستميتون لدخوله ولم يفلح مبارك في منعهم أو فضهم وكبر الميدان وصار رمزا للثورة السلمية وشاهدا علي بطش النظام.ثم تدهورت الامور فصار رفقاء الميدان في معسكرات متصارعة في ملحمة تغير رمزية الميدان وكأن من يهيمن علي الميدان يهيمن علي مصر كلها بذات الرمزبة القديمة.
ولذلك يتقاتل الفرقاء في مصر علي ميدان التحرير لان كل فريق يدعي أن الميدان يكسبه شرعية الثورة في 25يناير ولكن الجيش والشرطة يمنعون المعارضين من الفريق الاخر علي اساس ان هذا الفريق لم يعد جديرا بشرف هذا الميدان ، وأنه اذا دخله فسوف يصعب اخراجه الابالمزيد من اراقة الدماء،ولذلك رأينا ان نحلل في هذه المقالة الدلالة المتغيرة لميدان التحريرورأينا في أن الميدان يجب ابعاده تماما عن مجال الصراع.
فقداشتهر فى مصر عدد من الميادين المرتبطة بالتطورات السياسية والشعبية منذ 25 يناير 2011، وتغيرت رمزية هذه الميادين مع تغير موجات التطورات، وكأن هناك من يدير الأحداث من وراء ستار.
بدأ ميدان التحرير رمزا لثورة المصريين يوم 25 يناير وتميزت هذه الثورة بالشمول ومشاركة كل الشعب ضد مبارك ونظامه والحزب الوطنى، وطالبت هذه الثورة بعدد من المطالب التى يجب على أى سلطة تنشأ أن تتولى تنفيذها، ولذلك تداول السلطة الكثيرون خلال هذه الفترة وتفاقمت المشاكل وتراجع تطبيق الأهداف،حتي الان.
وقد بدأ اهتزاز صورة ميدان التحرير منذ مارس 2011 عندما تحمس الإسلاميون للإعلان الدستورى الذى ساهموا فى صياغته كما تحمس له المجلس العسكرى الحاكم فى ذلك الوقت، لأنه رأى فى الإعلان أساسًا قانونيًا لوجود المجلس العسكرى فى السلطة، وكان ميدان التحرير يرى أن نضع الدستورابتداءا ولكن كان يتعين تبرير الاقدام علي دستور جديد بينما الدستور القديم1971 لم يحترم وسيظل احترام الدستور هو المعضلة وليس السباق لوضع دستور جديد،وقداعترض الميدان تماما علي التعديل لاسباب كثيرة ابسطها ان منهج التعديل وليس الدستور الجديد هو ما تمسك به مبارك وعين لذلك د.يحيى الجمل ، ثم اصر عليه المجلس العسكري بالتفاهم مع التيارات الاسلامية ،وأن يكون الدستور وليس الإعلان الدستورى هو الطريق إلى الانتخابات. ولكن هذا الإعلان أدى إلى الفراق بين رفقاء الأمس، إذ حدث الشقاق على أساس دينى، فظهرت جمع الشريعة وقندهار، مقابل جمع العلمانيين و “الكفار” كما أطلق عليهم حينذاك، وبدأ العداء يتسع بين الطرفين، ولكن ظل الميدان يضم الثوار من غير الإسلاميين الذين اقتربوا من حليف جديد هو المجلس العسكرى. عند هذه النقطة بدأ الصدام بين ثوار التحرير والمجلس العسكرى حول عدد كبير من القضايا وأهمها، الاحتجاج على محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكرى،وعدم الحزم في مواعيد تسليم السلطة لحكومة مدنية وعندما عاد الإسلاميون إلى الميدان فى نوفمبر 2011 قبيل الانتخابات التشريعية للاحتجاج على وثيقة السلمى التى تروج لمكانة خاصة للمجلس العسكرى فى الوضع الجديد، ظن الثوار أن الإسلاميين قد عادوا إلى الميدان كما كانوا، ولكن عودتهم كانت تهدف إلى إقناع المجلس العسكرى بأنهم قوة تستطيع أن تضع حدودا لطموحاته.
وبدأت تظهر ميادين وساحات أخرى لم يكن للإسلاميين دور فيها : فى ماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء، حيث سقط الشهداء والمصابون وكان الطرف الآخر هو الجيش والشرطة بعد حياد الإسلاميين الأقرب إلى هذه الأماكن ولكن كل هؤلاء عوملوا معاملة شهداء 25 يناير ومصابيها لامتصاص غضبهم.
ثم بدأت تظهر ميادين أخرى مناهضة للتحرير خاصة بعد عودة الإسلاميين للمرة الثانية للضغط على المجلس العسكرى لعدم التوانى والمماطلة فى موعد تسليم السلطة وهذه الميادين هى العباسية لأنصار حازم صلاح أبو إسماعيل أمام وزارة الدفاع، حيث وقعت المجزرة، وميدان روكسى أنصار الجيش، ثم عادت العباسية لنصرة الجيش ضد التيار الإسلامى، وثوار التحرير، وظهر ميدان مصطفى محمود الذى كان رافدا لثوار التحرير فى 25 يناير ليضم أنصار مبارك، ثم أنصار الجيش، وانضمت المنصة بعد ذلك لأنصار الجيش.
وعندما فاز د. محمد مرسى فى انتخابات الإعادة قصد ميدان التحرير وهتف معهم ثوار أحرار حنكمل المشوار، وقرأ القسم الدستورى أمام الثوار الذين دعموه ضد مرشح الجيش ومبارك أحمد شفيق، وكرر مرسى تعهداته باستكمال ثورة يناير والقصاص للشهداء والرعاية للمصابين وتعزيز طريق الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية، وكانت تلك لحظة فارقة فى تاريخ الميدان الذى بدأت فيه الثورة، ثم تجسدت فى انتخاب أول رئيس مدنى لينشئ حكما ديمقراطيا لتحقيق أهداف الثورة، فصار أنصار الجيش دعما للمجلس العسكرى الذى حاول فرض الوصاية على الرئيس بإعلانه الدستورى قبل ساعات من إعلان النتائج النهائية، كما ظهر أنصار مبارك ضمن أنصار الجيش ضد الجميع .صحيح أن الأقباط صوتوا لصالح شفيق بشكل عام، وكان مكانهم الطبيعى هو الفريق الآخر ولكن أحداث ماسبيرو ومأساة الأقباط جعلتهم سياسيا مع الثوار فى الميدان.
وقد أسهمت إخفاقات الحكم وتراجعه أمام الثورة المضادة إلى إعادة تشكيل التحرير فصار مرتعا لذوى السوابق وعجزت الدولة عن تطهيره وإخضاعه لسيطرتها، أو قل إن الأجهزة أدخرته ليوم صار فيه الميدان مقصدا لثورة يونيو ضد الإخوان.
خلال عام حكم الإخوان ظهرت الاتحادية المناهضة لمرسى، فانقلبت في 30 يونيو إلى اتحادية تدين خلع مرسى ثم نشأت ميادين أخرى للإخوان والمعارضين لحركة تمرد وما أدت إليه تطورات يوليو وأغسطس وأهمها رابعة العدوية وميدان النهضة أمام جامعة القاهرة، ومقر نادى الحرس الجمهورى، حيث وقعت في المواقع الثلاثة، بالإضافة إلى المنصة أحداث دامية .
وإذا كان ميدان التحرير قد استقبل ثوار ينايروفيهم الاخوان،فان ثوار يونيو قد انفردوا به ومنعوا تحت حراسة الشرطة والجيش عناصر الاخوان.
وهكذا أمسي الميدان عشية الذكرى الثالثة فى يناير 2014 عند من قاموا بثورة يونيو تصحيحا لمكونات الميدان وتوجهاته التى عرف بها فى يناير، بينما يرى من كانوا فى يناير وقامت ضدهم يونيو أن الميدان صار سيئ السمعة.
وقد سبق أن حذرنا منذ مارس 2011 من ضرورة المحافظة على صورة الميدان كمرجعية إذا انحرف التطبيق السياسى لمنطلقات الميدان، وأن يكون رقيبا شعبيا على البرلمان الذى هيمن عليه التيار الإسلامى، وتغير موقفه مرارا من الميدان.
وفي كل الأحوال لن ينسى المصريون أن الميدان صار رمزا تاريخيا، ولذلك يجب إعداده ليكون مزارا سياحيا يسمح فيه بالمظاهرات ولكن لا يسمح فيه بالاعتصامات ولابد أن يتحول إلى هايد بارك يتعلم فيه المصريون أدب الحوار وفضائل الأخلاق، وحبذا لوجرت فيه عملية وطنية واسعة للوفاق المجتمعي وان تدور المناقشات علنية وبحرية ،فقد شب الشعب عن الطوق ولديه من حسن الفطرة ما يفلته من سطوة الاعلام ،ولايجوز ان يظل الميدان هدفا استراتيجيا يتقاتل عليه الفريقان فهو ملك لكل المجتمع ولابد من تنظيم قواعد الظهور فيه ومن باب اولي لايجوز لاحد احتكاره او تحويله الي ساحة لاراقة دماء المصريين.