يبدو أن روسيا قررت أن تدخل فى مساحات من الكيد السياسى لواشنطن، فللمرة الأولى يربط الرئيس بوتين بشكل مباشر بين السلاح الكيماوى السورى والسلاح النووى الإسرائيلى، فأوضح أن سوريا اضطرت إلى حيازة السلاح الكيماوى ردا وتوازنا مع السلاح النووى الإسرائيلى، ويدرك الرئيس بوتين قطعا أن هذه النقطة هى أقصى نقاط الحساسية عند إسرائيل والولايات المتحدة، وأن كل النداءات التى تنشغل بها المؤتمرات الدولية وأجهزة الأمم المتحدة حول إخلاء الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل، بكل مكوناتها، الكيماوى، والنووى والبيولوجية، هى إبراء للذمة.
فالموقف الثابت للجامعة هو إخلاء الشرق الأوسط من هذه الأسلحة جميعًا وعدم السماح بصناعتها وإدخالها بالنسبة لجميع الدول وهذا يسرى على إسرائيل وإيران، ولذلك فإن دول الخليج باعتبارها الأطراف المعنية مباشرة بالسلاح الإيرانى لا تريد أن تتحول إيران إلى دولة نووية. أما السلاح الكيماوى السورى، فقد أثير فى الفترة الأخيرة بمناسبة فاجعة الغوطتين ومدى مسئولية النظام أو المسلحين عن هذه الجريمة النكراء، حينما أصرت واشنطن على ضرب سوريا عقاباً لها فتصدت لها روسيا ثم تبين صعوبة إجراء الضربة الأمريكية دوليا وداخليا خاصة الكونجرس، كما أن روسيا أظهرت حزما لواشنطن فى مبدأ استخدام القوة ضد سوريا لأى سبب، وكان ذلك الموقف سببا فى الحرج للعملاقين، فاتفقا على مخرج لهما، يقضى بألا تقدم واشنطن على ضرب سوريا، وهذا الحل يقى واشنطن الحرج ويعفى روسيا من مشقة قرار المواجهة وتبعاته الخطيرة، ولكن القاسم المشترك هو أن السلاح الكيماوى موجود لدى كل جيوش العالم وأن استخدامه فى الحرب محظور، ومن باب أولى، فإن استخدام الجيش النظامى له وفى الصراعات الداخلية، أشد نكرا، فالحظر أشد ومن المحرمات العسكرية والقانونية والأخلاقية والدينية.
ولا يبدو أن هناك علاقة بين حيازة السلاح الكيماوى واستخدامه فى جريمة الغوطتين فى السياق السورى، فالاستخدام يوجب العقاب الجنائى لمرتكبى الجريمة، لكن العقاب لا يمتد إلى السلاح الكيماوى نفسه، والذى أوجد هذه الرابطة هى روسيا وأمريكا التى تتعرض لضغوط شديدة لإزاحة نظام الأسد من جانب إسرائيل، كما أن الاتفاق الروسى الأمريكى حول تدمير السلاح الكيماوى السورى هو مكافأة لإسرائيل وتعويض لها عما كانت تأمله من تدمير السلاح الكيماوى الذى لم تبق سوى ورقته فى يد سوريا ضد إسرائيل، وتتابعه إسرائيل متابعة حثيثة، وربما أغرت هذه المتابعة المراقبين بافتراض قابل للمناقشة وهو أن إسرائيل لها صلة ما بجريمة الغوطتين. وقد سبق لها أن هددت بتدمير السلاح الكيماوى السورى إذا ثبت لها وحدها أنه وقع فى يد حزب الله، وافتراض وقوعه فى يد حزب الله يزداد كلما ازدادت حاجة النظام فى سوريا إلى دعم حزب الله فى معركة المصير التى تخوضها دول كبيرة وبالقطع إسرائيل فى المقدمة. كذلك كانت إسرائيل تعد نفسها للقيام بمهمة تدمير السلاح الكيماوى إذا تم ضرب سوريا.
وقد صرح نتنياهو خلال حمى التهديد بالضربة الأمريكية بأن بلاده استعدت لكل الاحتمالات، يضاف إلى ذلك أن إسرائيل وواشنطن يديران الصراع فى سوريا لاستنزاف إيران مادام ضرب المفاعل الإيرانى محوطا بالمحاذير، ثم كان أمل إسرائيل أن تركز هجومها إما على القدرات الإيرانية فى سوريا أو أن تكون الضربة الأمريكية لسوريا غطاء لضرب إسرائيل لمفاعلات إيران، والمحقق أن هذه النقطة كانت محل جدل شديدًا بين إسرائيل وواشنطن، وربما كانت تلك نقطة الخلاف الوحيدة تقريبا بين البلدين، فالاتفاق على الضرب مؤكد ولكن الخلاف حول الوسائل، ولذلك ذكر أحد كتاب النيويورك تايمز خلال الأسبوع الثالث من أغسطس أن إسرائيل أصيبت بالإحباط لتراجع واشنطن واتهمت أوباما بالرئيس المتردد، وحثته على الإقدام على هذه الضربة بكل الطرق، وهذا يذكرنا بمقالة هنرى كيسنجر، أوائل ديسمبر 2002 فى نفس الصحيفة ضمن جهوده لحث الرئيس بوش الابن على غزو العراق، ويبدو أن ترتيبات الغزو قد اتخذت طابعًا جديًا على إثر هذه الضغوط.
وأضاف الكاتب أن البديل عن الضربة الأمريكية لسوريا ضربة إسرائيلية لإيران لتوريط واشنطن فى حرب لا تريدها، وكان أمام واشنطن أحد خيارين، إما أن تضرب هى سوريا حتى تحقق إسرائيل الجزء الخاص بها فى هذا الخيار، وإما أن تضرب إسرائيل إيران بنفسها، أو القيام بنفسها بالهجوم على السلاح الكيماوى السورى، وفى كل الأحوال تؤدى إلى توريط واشنطن التى لا تطيق أن تجد إسرائيل وحدها فى أتون نيران قد تأتى على مقدراتها وتفتح الباب لحرب إقليمية واسعة لن تكون روسيا هى الأخرى بعيدة عنها.
وإذا كانت بعض دول الخليج قد وجدت نفسها مصلحة فى حث واشنطن على ضرب سوريا، فإن الحل الروسى الأمريكى يعنى أن تدمير السلاح الكيماوى هو بديل الضربة والعوض عنها، علما بأن الضربة تصيب الشعب والدولة والجيش، أما تدمير السلاح فيحرم سوريا من ورقة فى الصراع مع إسرائيل، وهذه نقطة لا تفيد الدول العربية أنصار ضرب سوريا، ولذلك قد يكون من السهل عليها أن تكون مع أعضاء الجامعة العربية فريقاً واحدا يسعى فى الأمم المتحدة إلى اشتراط أن يكون مقابل تدمير السلاح الكيماوى هو تدمير السلاح الكيماوى أو النووى لإسرائيل وهى بالقطع لا تحتاج إليه لأن توازن القوى والإرادات بتهاوى العرب شديد الاختلال لصالحها وهى فى أمان مادام العرب على هذا النحو من التراجع إلى مجرد المحافظة على الوحدة الإقليمية المهددة لدولهم.
فهل نطمع فى أن تتخذ الجامعة العربية قرارا تربط فيه موافقتها على تدمير السلاح الكمياوى السورى على أن تضع السلاح الكيماوى أو النووى أو كليهما فى الكفة الأخرى، وهى مساومة لا تكلفهم شيئا مادام ضرب واشنطن لسوريا لم يعد واردا، ودخله حسابات القوى العظمى.
رغم أن هذا الاقتراح يفيد الجامعة لأنه ينشئ لها موقفا من هذه النقطة، إلا أنه قد يواجه برفض أمريكى لا تقوى معه الدول العربية على إثارة الموضوع فى اجتماعات الجامعة ناهيك عن نقله إلى الأمم المتحدة أم تقنع الدول العربية بترديد العبارات التقليدية «إخلاء الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل» وهى صيغة إبراء الذمة؟