قبل أن نخوض في شكل تلك العلاقة علينا أن نعرف ماهو الدين وما هو المُجتمع , وقد قُمنا في الحلقة الثانية والثالثة بتعريف الدين وماهيته .
أما تعريف المُجتمع : فهو مجموعة من الأفراد تسكُن بُقعة جُغرافية مُعينة، مُحددة من الناحية السياسية، ومُعترف بها، ولها مجموعة من العادات والتقاليد، والمقاييس والقيم، والأحكام الإجتماعية، والأهداف المُشتركة المُتبادلة التي أساسها الدين، واللُغة، والتاريخ , والعُنصر .
إذ أن الشرط في وجود مُجتمع قويم هو تحقُق مبدأ الشراكة والمواطنة والعمل الجماعي , وهو مالم يتوفر في كثير من مُجتمعات المُسلمين إذ يغلُب عليها طابع الفردية والتشرذُم والعمل في أكثر من إتجاه دون تحديد هدف , وهو ما جعل ” المُفكر مالك بن نبي رحمه الله يقول : إن المجتمع الذي يعمل فيه كل فرد ما يحلو له ليس مجتمعاً ولكنه إما مجتمع في بداية تكونه وإما مجتمع بدأ حركة الإنسحاب من التاريخ فهو بقية مجتمع ” ..
وهذا ماأوضحتهُ الماكينات اليهودية في التعامُل مع القضايا المُجتمعية في أوروبا , فدائماً ما تسعي إلي تضخيم جانب الفردية على حساب الحس الجماعي , حتى كثُرت القضايا التي يعُدها العُرف هُناك خصوصيات تخضع لمزاج الفرد ومصلحته ، وكانت النتيجة التي انتهوا إليها هي تفكُك تلك المُجتمعات على نحو مُخيف .
وقد إنتقلت هذه العدوىَ إلى بلادِ المُسلمين , فصار كثير من المُسلمين غير مُستعدين لقبول نصيحة من أحد , بحجة أن ما يُلاحظ عليه يعود إلى خصوصياته التي لا تقبل أي نوع من التدخُل . وهذا الصِنفُ من الناس – وهو يمثل اليوم في المسلمين الأكثرية – على غير دراية بفلسفة هذا الدين في إقامة المُجتمعات وإنشاء الحضارات , مما يجعل رؤيتهم للحياة كثوب ضم سبعين رقعة مختلفة الأشكال والألوان .
ولدينا العديد من الآحاديث التي تدعو وتحُث على ضرورة العمل الجماعي والمُشاركة , وان يخاف كُلاً منا على الآخر , فقد روى النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : ” مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها ، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم . فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا . فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً ، وإن اخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً” رواه الإمام البُخاري .
كما إن الضمانة الطبيعية و الفطرية الأولى لقيام مُجتمع قويم , هيا التآخي والتودد , يليها بعد ذلك ضمانة السلطة و القانون ، فما إذا أرادت السُلطة أن تُحقق مبادئ العدالة بين الأفراد، فإنها لا تتحقق ما لم تقُم على أساس من المحبة و التآخي فيما بينهم ، بل إن هذه المبادئ من المُمكن أن تكون مصدر أحقاد وضغائن تشيع بين أفراد ذلك المجتمع إن لم تُصبغ بالمحبة والتآخي ، ومن شأن الأحقاد و الضغائن ان تعمل على إرساخ بذور الظُلم و الطُغيان في أشد الصور و الأشكال .
من أجل هذا , اتخذ رسول الله ” صلى الله عليه وسلم ” , من حقيقة التآخي الذي أقامهُ بين المهاجرين و الأنصار , أساساً لمبادئ العدالة الاجتماعية ، ولقد تدرجت مبادئ هذه العدالة فيما بعد , بشكل أحكام وقوانين شرعية مُلزمة ، ولكنها كُلهَا إنما تأسست وقامت على تلك الأرضية الأولى ، ألا وهى :
” الأخوة والمواطنة ” ، ولولا هذه الأخوة العظيمة , التي تأسست بدورها على صحيح العقيدة الإسلامية ، لما كان لتلك المبادئ أي أثر تطبيقي وإيجابي , في شد أزر المجتمع الإسلامي ودعم كيانه .
” القانون ” , ولما كان هُناك أفراد وتعامُلات يومية , ومُجتمعات اُخري , فهذا يُحتم وجود قانون ومواثيق ومُعاهدات , تُنظم تلك العلاقة بين الأفراد وبعضها البعض , وبين الدول بعضها وبعض , وهو ما قام النبي ” صلي الله عليه وسلم ” علي تطبيقه والخُلفاء من بعدِه .
“التعليم ” , ولما كان التعليم والتعلُم هو من اُسُس الدين الإسلامي , وشرط في قيام مُجتمع رشيد ومُتقدم , فإن النبي ” صلي الله عليه وسلم ” , أمر أصحابه بالتعلُم وتعليم المُسلمين , ورفع من شأن العُلماء , والساعي إلي طلب العلم , كما انه بعد وفاة النبي ” صلي الله عليه وسلم ” بـ 20 سنة , وتحديداً في عصر خلافة ” علي رضي الله عنه ” , حض المُسلمين على التعلُم في جميع العلوم , الكونية منها والدينية , والفلكية والحساب , وغيرها من علوم الفلسلفة والطبيعة , وأبتدأ المسلمون بعدها , يتحسسون نور العلم , في وجود العديد من الظلُمات , التى نتجت عن الحروب وإنقسام المُسلمين أنذاك , فشهدت بعدها , ترجمة العديد من الكُتب إلي العربية , والتوسع في إنشاء الجوامع لتحصيل العلم , مروراً بإنشاء الكتاتيب وحلقات العلم , والمدارس , فشغل العلم بكُل مجالاته العديد من عُلماء المُسلمين , وبرزوا ونبغوا في مجالاتهم .
” واخيراً ” , وجب أن نُشير إلي أن الآصل في وجود الإسلام وإقامة المُجتمعات هو البناء وليس الهدم , والتكامل لا التناقص , والمؤاخاة لا التناحُر , و الإحياء وليس القتل , وتقديس الروح البشرية لا إمتهانها , وحرمة الدماء والأموال والأعراض لا إنتهاكها , وإقامة العدل و تحقير الظُلم , ولم يتخذ الإسلام إجراءات إحتياطية في شىء , مثلما احتاط في الدماء , وجعل إزهاق الروح الواحدة , كإزهاق أرواح البشر جميعاً , ولم يُشرع الإسلام الإقتصاص من الآخرين , إلا في بعض الأحيان وبمقدار الدفاع عن ” الأرض والعرض ” ,وحتى في حالات الدفاع عن ” الأرض والعرض ” , هناك مجموعة شروط يجب الإلتزام بها , منها حرمة التعدي على النساء والأطفال , وحرمة قطع الأشجار و إلحاق الرعب بالآخرين .
وإذا كان ذلك هو شكل المُجتمع في الإسلام , فما العلاقة بين الدين والفرد ؟!!!
قرائنا الأعزاء نود إعلامكم أن حلقات ” الإسلام الذى لا يعرفه المتشددون ” ستنشر بدءاً من الأسبوع القادم أسبوعياً بدل من نصف أسبوعية على أن تطل عليكم مساء كل اثنين .
لمتابعة الحلقات السابقة :
رابط الحلقة الأولى ” المتطرف وطريقته فى الاعتقاد ” : http://a7walmasr.com/show-5810.html
رابط الحلقة الثانية ” ماهية الإسلام ” : http://a7walmasr.com/show-5946.html
رابط الحلقة الثالثة ” ماهية الإسلام وعالمية رسالته وجوهره ” : http://a7walmasr.com/show-6187.html
رابط الحلقة الرابعة ” الدين والدولة ” : http://a7walmasr.com/show-6325.html